المسيحيّون الضحيّة والأزمةُ سياسيّة
الّذين حَضروا مؤتمرَ الطائف سنةَ 1989 اتّفقوا على لبنانَ وطنًا نهائيًّا وليس على الطائفِ دستورًا نهائيّا. هذا يعني وجوبَ احترامِ الطائف لئلّا يُصبحَ تغييرُه مُستَوجَبًا. وهذا يعني أيضًا وجوبَ الاعترافِ بلبنانَ وطنًا نهائيًّا لئلّا تَنبُتَ حواضرُ لبنانيةٌ ومدائنُ كما كانت الحالُ منذ الفينيقيّين حتى المتصرفيّة… جُرمٌ شنيعٌ أنَّ هذا الوطنَ، لبنانَ الكبير، وقد انبَثقَ أساسًا من نضالِ البطريركيّةِ المارونيّةِ، يَتعرّضُ اليومَ للسقوطِ بتغطيةِ مسؤولِين موارِنة. صَنعت البطريركيّةُ المارونيّةُ هذا الوطنَ من أجلِ شعبٍ، ويُدمِّرُه موارنةٌ طارئون من أجلِ شخص. هؤلاءِ الموارنةُ يتواطأُون مع مُكوّناتٍ لبنانيّةٍ اعترفَت نهائيًّا بأوطانٍ أخرى وسَجَدَت لدساتيرِها، وراحَت تَسعى إلى السيطرةِ على لبنان من دون الاعترافِ به بقَصْدِ تغييرِ الطائف وتجييرِ لبنان إلى تلك الأوطان.
تجاه خطورةِ هذا الواقع، تُصبح التفسيراتُ الدستوريّةُ بشأنِ مَن يتولّى الشرعيّةَ في حالِ حصولِ شغورٍ رئاسيٍّ لزومَ ما لا يَلزَم. الدستورُ واضحٌ ويَنصُّ على انتقالِ صلاحيّاتِ رئيسِ الجُمهوريّةِ إلى مجلسِ الوزراء، وأيُّ تفسيرٍ آخَر مناقِضٌ للدستور. الإشكاليّةُ هذه المرّةَ، أنَّ الحكومةَ الحاليّةَ مستقيلةٌ، وبالكادِ تُصرِّفُ أعمالَها وتَفُكُّ الاشتباكاتِ الناشبةَ بين وزرائِها، فكيف لها أن تَتولّى جميعَ سلطاتِ الجمهوريّةِ وتَتّخذَ القراراتِ المصيريّةَ الدستوريّةَ والسياسيّةَ والإصلاحيّةَ وتكونَ المحاوِرَ الشرعيَّ الوحيدَ باسمِ لبنان مع العالم؟ لذلك ناشدْنا، بكلِّ محبّةٍ واحترام، رئيسَ الحكومةِ المستقيلَ والمستقيلةِ، المهندس نجيب ميقاتي، تشكيلَ حكومةٍ جامعةٍ توحي بالثقة وتكونُ بمثابةِ مجلسٍ رئاسيٍّ، فيُسقِطُ بذلك جميعَ الفذْلكات العشوائيّةِ المحيطةِ بانتقالِ السلطةِ طبيعيًّا إلى مجلسِ الوزراء بعد الشغورِ الرئاسي. إنَّ عدمَ تأليفِ حكومةٍ جديدةٍ يُخالف منطوقَ اتفاقِ الطائف ويُحلِّلُ للمتربِّصين به شرًّا الطعنَ به، ويفَتحُ البابَ أمامَ اجتهاداتٍ دستوريّةٍ “غِبِّ الطلَب” تُشكِّكُ بمبدئيّةِ انتقالِ سلطةِ رئيسِ الجُمهوريّةِ إلى الحكومة. نحن بحاجةٍ إلى جهودٍ لتأليفِ حكومةٍ جديدةٍ عن بَكْرةِ أبيها، لا إلى اجتهادات تُثبِّتُ حكومةً مستقيلةً.
أصلًا: إنَّ الأَزمةَ الحاليّةَ هي أزْمةٌ سياسيّةٌ بامتيازٍ لا دستوريّة. لكنَّ العاملين على إسقاطِ البلادِ تدريجًا خَلَعوا عليها عباءةً دستوريّةً لخلقِ نزاعٍ مارونيٍّ/سُنيٍّ حول الصلاحيّات، ولتمريرِ انقلابِهم السياسيِّ والعسكريٍّ على الدولة. ويخطئ، بالتالي، الّذين يَبحثون في علمِ الدستور عن حلٍ لعدمِ تأليفِ حكومةٍ، وعن حلٍّ آخَر لعدمِ انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة في المهلةِ الدستوريّةِ. هذا ذَرُّ الرمادِ في العيونِ ووقوعٌ في فَخِّ الّذين يُنفّذون الانقلابَ المتواصلَ على النظامِ اللبناني.
أعرفُ أنَّ إخوانَنا السُنّةَ، وإن كانوا حريصين على صلاحيّةِ مجلسِ الوزراء، لا يَتوقون مطلقًا إلى الحلولِ مكانَ رئيسِ الجُمهورية، خصوصًا أنَّ انتقالَ سلطاتِ رئيسِ الجُمهوريّة، هذه المرّةَ، إلى مجلسِ الوزراءِ هي هديّةٌ مَسمومةٌ، بل لُغمٌ جاهزٌ للتفجير. دورُ هذه الحكومةِ المتناثرةِ لن يكونَ حراسةَ الشرعيّةِ والمحافظةَ على المؤسّساتِ كما كان دورُ حكومةِ الرئيس تمام سلام بين سنتي 1014 و 2016، بل سيُحمّلونها مسؤوليّةَ استكمالِ الاستيلاءِ على ما بَقي من شرعيّة. إن الأطرافَ المجاهِدةَ لوضعِ اليدِ على لبنان، سيطرت على أجزاءَ من الشرعيّةِ بالسلاحِ والهيمنةِ وبتعطيلِ المساراتِ الديمقراطيّةِ تارة، ومن خلالِ رئاسةِ الجُمهوريّةِ والمجلسِ النيابِّي ومجلسِ الوزراء تارةً أخرى، ومن خلال المؤسّساتِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ والقضائيّةِ والإداريّة طورًا. وها هي تَتحضّرُ للسيطرة على الأجزاءِ الباقيةِ بالشغورِ الرئاسيّ، بحكومةٍ مستقيلة… وبالفراغِ الكامل، والفراغُ مرضٌ قاتلٌ يجبُ أن نَهزمَه…
من هنا أَنَّ الأزْمةَ الحاليّةَ لا تَطالُ إخوانَنا السُنّةَ وآليةَ انتقالِ الشرعيّةِ إلى مجلسِ الوزراء، بل تَطالُ المسيحيّين أوّلًا والموارنةَ خصوصًا، إذ إنَّ ما يجري هو تعطيلُ انتخابِ رئيسِ جمهوريّةٍ مارونيِّ لضربِ موقعِ الرئاسةِ ودورِ المسيحيّين في دولةِ لبنان والشرق وتغييرِ خصوصيّةِ لبنان وهُويّتَه. وهذا يَستدعي بَدءَ مقاومةٍ حقيقيةٍ تَضع حدًّا للتقهقرِ المسيحيّ، لا البحثَ عن ملجأٍ للشرعيّةِ عند هذه الطائفةِ أو تلك. نحن أصحابُ حقوقٍ لا أصحابَ لجوء. إنَّ المسيحيّين هم ضحايا هذه الأزْمة، وليس المسلمون أكانوا سُنّةً أم شيعةً أم دروزًا. ومن هنا أيضًا أنَّ جوهرَ الموضوعِ ليس كيفيةَ ترحيلِ صلاحياّت رئيس ِالجمهوريّةِ إلى الحكومةِ، بل كيفيةُ تثبيتِ صلاحياّتِ الرئاسةِ عند رئيسِ الجُمهوريّةِ الجديدِ دون سواه. فرجاءً لا تأخذونا “فرقَ عُملة” بين المذاهب.
منذ البَدء قلنا إنّنا لن نُسلّمَ البلادَ إلى حكومةِ الفريقِ الواحد، وتحديدًا إلى فريق حزبِ الله و08 آذار الذي يُسيطر على هذه الحكومة. لكنَّ هذه المعارضةَ تُرافقُها معارضةٌ أخرى هي بقاءُ رئيسِ الجُمهوريّةِ في مَنصبِه بعد انتهاء ولايته. لا ثقةَ لنا بهذه الحكومة. فرغم أنها تضم وزيرةَ ووزراءَ محترمين، إلا أنَّ غالِبيّةَ أعضائها لا تَصلحُ للبقاء حتى لو لم يَحصُل شغورٌ رئاسي. لا ثقةَ لنا بنائبِ رئيسِ الحكومة سعادة الشامي الذي يُنفّذُ أوامرَ صندوقِ النقدِ الدوليِّ على حسابِ فقراء لبنان والمودِعين والاقتصادِ الحرِّ والنظامِ المصرفي. لا ثقةَ لنا بوزيرِ الماليّة يوسف خليل الذي رفض توقيعَ تشكيلاتِ محاكم التمييز. لا ثقةَ لنا بالنهجِ الثقافيِّ الطائفيِّ والرَجعيِّ لوزيرِ الثقافة محمد وسام مرتضى. لا ثقةَ لنا بوزيرِ الطاقة والليلِ وليد فياض الذي فَشلَ في مَهمّته وأبقى البلادَ في العتمةِ الشاملة. لا ثقةَ لنا بوزيرِ الاقتصاد الذي أخْفق في مراقبةِ السِلعِ وضبطِ الأسعارِ وتَساهَلَ في إسنادِ المناقصات إلى الأقرباء. لا ثقةَ لنا بوزيرِ المهجَّرين الذي أصبح ناطقًا باسمِ النظامِ السوريِّ وشَتمَ رئيسَ حكومتِه بوقاحة. لا ثقةَ لنا بوزيرِ العمل مصطفى بيرم الذي شرّع العملَ أمام السوريّين والفِلسطينيّين على حسابِ اليدِ العاملة اللبنانية. لا ثقةَ لنا بوزيرِ الأشغالِ العامّةِ علي حميّة الذي لزّم مشاريعَ ضخمةً في المرفأِ والمطارِ وغيرهِما من دونِ المرور بهيئةِ المناقصةِ العامة.
لذلك إذا كانت الأطرافُ السياسيّةُ صادقةً في رفضِ بقاءِ الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا، وحريصةً على دورِ المسيحيّين في لبنان، فلتَنتخِب رئيسًا للجمهوريّةِ تَتجلّى بوجودِه السياديِّ خصوصيّةَ لبنان والحياةَ الدستوريّةَ والميثاقيّةَ، عوضَ الاقتراعِ على ثيابِه ومَنصِبه وصلاحيّاتِه. لا نريد أن تَذهبَ صلاحيّاتُ الرئيس إلى أيِّ مرجِعيّةٍ. هذه المرّة نرفض مبدأَ الشغورِ ولن نعبأ بأي تفسيرٍ دستوريٍّ على حسابِ رئاسةِ الجُمهوريّة التي صارت مَكسرَ عصا. لن يَملأَ الشغورَ سنةَ 2022 مجلسُ وزراء مستقيلٌ، فحذاري الفوضى والفراغَ وولادةَ “لبناناتٍ” لا تُشبه لبنانَنا الذي به نَتمسّكُ.