تكساس في 28 نيسان 2021
ثورة تشرين 2019، ربيع لبنان المؤجل*
السفير د. هشام حمدان
إنطلقت ثورة تشرين 2019 بزخم كبير. إمتلأت الساحات بالناس من كل المناطق ومن كل الأعمار والطوائف والشرائح الإجتماعية، رافقتها حركة حاشدة للإغتراب اللبناني في كل دول العالم، وسادتها أجواء من الرقي الثقافي والإنتظام الرائع، وقامت سلسة بشريّة من الجنوب إلى الشمال كاسرة كل الحواجز الجغرافية. إنتشرت الخيم الهادفة للتّوعية العامّة في الوسط التجاري، وزادت المحاضرات الفكريّة الهادفة.
بعد ثلاثة اشهر، فقد الشارع زخمه. تدخّلت الأيدي السّحرية برعاية إعلاميّة فاضحة، تروج لمن يرمي الحجارة ويحطّم هنا ويحرق هناك، فتحوّلت الثورة إلى فوضى. تعدّدت المجموعات في هذه الثورة كالفطر البرّي. تكاثرت الآراء، وتكرّرت بين الثوّار مسرحيّة الفوضى القائمة بين اركان السّلطة السياسيّة. صار لكلّ مجموعة نظريّتها الثاقبة ومصباحها السّحري لإنقاذ لبنان. وزاد السباق بين المواطنين لالتقاط الميكروفون الذهبي لتلفزيونات لبنان، فيشرح كلّ منهم الحكاية على سجيّته، ممّا أدّى إلى انكفاء الناس إلى بيوتها.
ترى ماذا حصل لثورة تشرين، ولماذا هذا التبدّل المفاجئ؟
من يدرك لعبة الدول الكبرى الإقليميّة والدوليّة في الشّرق الأوسط ، يمكن أن يجيب بسهولة. الخارج المعني ب”ربيع لبنان” رفع غطاءه عن الثّورة، فانقسمت، وتشرذمت قواها، وسادتها الفوضى. الثّورة إنطلقت قبل نضوج المعطيات الكاملة المناسبة لنجاحها. فبعد حزيران 2019 حين تمّ الإتّفاق الرّوسي الأميركي الإسرائيلي على أنهاء لعبة الربيع العربي في سوريا، وإنهاء دور إيران في هذا البلد ومحيطه، برزت عقدة محافظة إدلب التي رفضت تركيا التّخلّي عنها قبل التوصّل إلى اتّفاق أمميّ بتحويلها إلى منطقة آمنة برعاية دوليّة، يكون للأخيرة الدّور الرئيسي فيها.
كان من الممكن تجاوز عقدة الدّور الإيراني في سوريا، لكنّ الدّور التركي كان له حيثيّة مختلفة. فتركيا لا تقاتل في سوريا بسبب معطى سياسي فحسب، بل بسبب معطى استراتيجي يتّصل بأمنها الوطني واستقرارها. وهي لا تريد ان تتخلّى عن العمق الذي أمسكت به داخل سوريا قبل التأكّد من عدم عودة المجموعات الكرديّة، وربما العلويّة، للتّاثير في واقعها الداخلي. ولهذا السبب كان لا بدّ من تأجيل الإستحقاق في لبنان، ولجم التحرّكّات ومنع تحوّل السّاحة اللبنانيّة إلى ساحة صدام عسكريّ يمكن أن يبدّل حالة الستاتيكو فيها. العالم لا يمكن أن يتحمّل نزاعا عسكريا جديدا. لبنان هو مخيّم للّاجئين، وخطّ دفاع أول بمواجهة الإرهاب الدولي، والفوضى فيه تعني تدفّق ملايين اللّاجئين إلى دول أخرى وتوافر بيئات حاضنة للإرهاب. وعلى ألأثر، عاد السياسّيون إلى ملعب الأحداث، وانطلقت آليّة حزب إيران إلى ترهيب المعارضين، وممارسة القمع المنظّم لمن يتطاول على سلاحه وحضوره العسكري ودوره الإقليمي.
وساهم واقع الحجر الذي فرضه فيروس كورونا على الناس، بانتشار اللّقاءات عبر وسائل التّواصل الإجتماعي، فتوافر للمجموعات معين آخر غير الشارع، للتّسليّة وتمضية الوقت وتناقل الأخبار. كما استخدمت مجموعات الأحزاب والتشكيلات الفردية الطّامحة للمواقع السياسيّة هذه الوسائل للتّرويج لمصالحها. واستخدمها أيضا الإخصائيون، في إثارة النّعرات وتوجيه غرائز المواطن.
هذه الثّورة لن تؤتي ثمارا. ستبقى رهينة الفوضى إلى أن يتّخذ أصحاب القرار قرارا بإقفال ملف الشرق الأوسط وتسويّة آخر معضلة معيقة فيه، ألا وهي الحالة اللبنانيّة. لكن هذا لا يعني أن يتّخذ الوطنيون قرارا بالإنكفاء واعتماد دور المتفرّج على هذه المسرحيّة. علينا العمل لكي نلزم أصحاب القرار الدولي باتّخاذ القرار المناسب بشأننا من دون استمرار ربطنا بالإشكاليّة السوريّة. لقد أمكن فعلا وضع عدة مداميك لهذا الأمر، أهمها ولا شك، وضع صيغة حياد لبنان على جدول القرار الدولي. كما أمكن تحديد ذلك الحصان الذي سيقود عربة الخروج من الأزمة، من خلال الدّعوة إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة لإنقاذ لبنان. وعلينا الآن أن ننطلق إلى البرنامج الذي نريد أن تساهم به الأمم المتّحدة لإنقاذنا. يكفي أن نطالب بتنفيذ القرارات الدوليّة بدءا من إتّفاقيّة الهدنة وصولا إلى القرار 1701. لا حاجة لتسمية أيّ قرار، أو إطلاق الشعارات العميقة كعنوان الدولة الفاشلة، والدولة المدنيّة، والدولة الفدراليّة وغيرها. هذه القرارات فيها كلّ الحلول لمشاكلنا المختلفة. على جهابذة ثورة تشرين، أن يتوقّفوا عن الإجتهاد في التّفاصيل، وأن يعملوا بقوّة لإقناع العالم بأننا جادّون في تحصيل حقوقنا وأننا نريد أن نخرج فعلا من لعبة الأمم في الشرق الأوسط،. كلّ المشاكل الأخرى ستصبح سهلة المعالجة وبمساعدة دوليّة.