موجة السورنة وحكم التاريخ
بقلم ادمون الشدياق
كتبنا في الماضي ونكتب الآن لاظهار كلمة الحق وايماناً منا بأن المعرفة هي منبر الحقيقة ومشعل الحرية وهي الطريق الأصح والأصوب لبناء لبنان قوي مميز تعددي وحضاري.” وأن كانت الأوطان تبنيها إرادة بنيها، فإن هذه الإرادة لا تنتقل من حالة اللاوعي الى الوعي وحالة الانفعال الى الفعل وحالة الجمود الى الديناميكية إلا بالمعرفة. وقاعدة المعرفة الوطنية، معرفة التراث، لأنها المحرك الأساسي والأقوى للشعور الوطني الصحيح. فهي يقظة الذات على طاقاتها ومصدر ثقتها بنفسها وإيمانها بكيانها”.(1).” فإن واقع جهل اللبنانيين أو تجاهلهم للتراث اللبناني من جهة، وعملية التجهيل المتعمدة لهذا التراث ومحاولة تشويهه من جهة اخرى، عوامل تؤدي كلها الى تمزيق الوحدة البشرية اللبنانية وبالتالي الى تفتيت الوحدة الجغرافية الطبيعية للبنان والى تغيير هويته”.(2)والمؤسف أن بعض اللبنانيين ( وهم قلة ) تعلم في عصر البعث السوري أن كلمتا الحق والحرية هما من المحرمات، وأن الخطر كل الخطر يكمن في قول الحقيقة وفي المجاهرة بالتراث اللبناني وبالهوية الوطنية اللبنانية وبالكيان اللبناني بحدوده المعترف بها دولياً. قلة متخصصة بالتبخير والتطبيل والانبطاح وبتزوير التاريخ وطمس التراث حفاظاً على مصالحها الشخصية… قلة تجفل من قول الحق والحقيقة، وتركب أي موجة غريبة المهم أن لا تكون وطنية لبنانية.وإحدى أخطر هذه الموجات موجة السورنة والتي تدعي بأنه لم يكن للبنان يوماً كياناً سياسياً أو اجتماعياً أو وطنياً خلال حقبات التاريخ. لا بل هو كيان استحدث عن طريق اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة، وبأن الفرنسيين ضموا الساحل وصور وصيدا وجبل عامل والبقاع الى جبل لبنان لتكوين لبنان الكبير. ان هذا القول المجتزأ المجتزئ هدفه ايهام غير المتعمق بتاريخ الشرق الأدنى أن لبنان كان دائماً من دون تلك المناطق وأنها مناطق أخذت من سوريا ويجب اعادتها اليها ويمكن القول اذاً أن لبنان في الواقع يحتل أرضاً سورية.في الواقع الحقائق التاريخية التي لا تقبل الشك تثبت أن هذه الاجزاء كانت عبر التاريخ ومنذ آلاف السنين أجزاء من لبنان اقتطعتها الدولة العثمانية المستعمرة منه في حقبات معينة، وتم استردادها عند تكوين لبنان الكبير.ونحن ومن منطلق مقاومة التزوير والضم والتشويه والتذويب نورد ما يلي لنؤكد:1 – أن حدود لبنان منذ فجر التاريخ كانت تساوي أو تتعدى مساحة ال10452كلم2 وأن أجزاء واسعة من سوريا كانت بالفعل في اوقات معينة جزء من لبنان وسلخت عنه لتضم الى ما يسمى بدولة سوريا.2-اختلاف نظرة الاقدمين الى لبنان وما كان يسمى بسوريا خلال العصور واعتبارهم كيانين مختلفين تماماً.هل هي اجزاء من سوريا ضمت الى لبنانوفي الآتي ما يؤكد ما نقول:جاء في كتاب تاريخ لبنان للدكتور فيليب حتي طبعة 1978 صفحة174 وفي نص مترجم لنقش من هيكل عاصمة الملك أشور ناصر بال الثاني ( 883 – 839 قبل الميلاد ) يتكلم فيه الملك فيقول : لقد استوليت على معظم جبال لبنان وبلغت بحر أمورو البحر العظيم. وقد غسلت الدماء من أسلحتي في الغمر العظيم، وقدمت ذبائح من الغنم لجميع الآلهة، وقد دفع الحزية أهل الساحل اللبناني، أهالي صور وصيدا وجبيل ومهالاتا ؟ وميزا ؟ وكيزا ؟ وامورو وارواد الجزيرة “.وفي نفس السباق جاء في المرجع ذاته صفحة 597 : ” ولم يكن لبنان المتصرفية في حدوده آنذاك يشمل البقاع ووادي التيم، كما أن بيروت وصيدا فصلتا عنه، وهذه جميعاً كانت من قبل أجزاء من لبنان وهكذا وضعت موانىء لبنان القديمة بيروت وصيدا وطرابلس تحت اشراف الدولة العلية المباشر”. وأيضاً في صفحة (597) وهو يتكلم عن انشاء دولة لبنان الكبير : ” وفي هذه الأثناء وضع دستور جديد لحكم البلاد ولتعيين الحدود، أما المدن البحرية التي ألحقت بلبنان، بيروت التي أصبحت العاصمة وصيدا وصور وطرابلس والمدن والمقاطعات الداخلية مثل البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا ومرجعيون، فانها كانت سابقاً جزءاً من تاريخنا وجغرافيتنا”.حدود لبنان التاريخيةوهنا نذكر المنادين بالسورنة بأن الكتاب المقدس العهد القديم حدد حدود لبنان من آلاف السنين في سفر القضاة 3/3 على الشكل التالي:”جميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين المقيمين في جبل لبنان من جبل بعل حرمون الى مدخل حماة …كما ورد في سفر يشوع 13/5 : ” وكل لبنان نحو شروق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون الى مدخل حماة”.وأما عن امتداد لبنان شرقاً فقد حدده المؤرخ ” يوسيفوس ” ( القرن الأول بعد السيد المسيح )، في ” آثار اليهود ” الكتاب رقم 5 ، الفصل 1 ، القسم 22، بجبل الشيخ وما يحيط بدمشق من تلال وجبال دعاها كلها باسم جبل لبنان، اذ قال ” منابع نهر الأردن الذي يتدفق من جبل لبنان “.وورد في سفر نشيد الانشاد 7/4 : ” انفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق”.وظلت هذه النظرة سائدة خلال العصور ولذلك نرى في القرن الثاني عشر عندما كتب أسقف صور وليم الصوري، تاريخ الحملات الصليبية، قال فيها ” لنهر الأردن منبعان في سفح جبل لبنان “.وبما أن معظم مدخل حماة واجزاء من سلسلة جبال لبنان الشرقية تقع في ما يسمى بسوريا وبعد هذه الدلائل نسأل من الذي يحتل أرض الغير، لبنان أم سوريا ؟ وليتذكر الداعون الى الهيمنة السورية وإعادة المسلوخ اليها بأن دولة سوريا الحالية جمعت بضم أربعة قطاعات منفصلة لتؤلف دولة جديدة ( تختلف عن المقاطعة اليونانية – الرومانية التي دعيت سوريا خلال حقبات معينة من التاريخ ) وهذه المقاطعات هي ولاية الشام، وولاية حلب، ودولة العلويين ودولة الدروز.اختلاف النظرة التاريخية الى لبنان وسوريا.وسنورد فيما يلي بعض المراجع التي نأمل أن تفيد وتوضح أن النظرة التاريخية الى لبنان ( فينيقيا أحياناً) وسوريا كانت دائماً نظرة الى منطقتين مختلفتين. فقد جاء في كتاب ” ديوان الشعر الاغريقي “… هنا يرقد ميليغر ابن بقراطس الذي كان يجمع بين دموع الحب الجميل وبين ربة الشعر وطيب العيش، صور رابية السماء حضنتنييافعاً، وتربة غدارا المقدسة غذتني شاباً، وجزيرة قبرص الحبيبة رعتني شيخاً. ان كنت سورياً فعليك مني السلام، وان كنت فينيقياً فلك مني التحيات، وان كنت اغريقياً فمرحى. باللّه عليك اذا مررت بهذا القبر فردد ما قلت”.(3)وبذلك نرى أن سوريا وفينيقيا واليونان ذكرت كأجزاء منفصلة كلّ لها كيانها.وفي كتاب تاريخ لبنان للدكتور فيليب حتي صفحة (218) يقول في معرض حديثه عن انتشار اللغة اليونانية ” ولكن قولنا هذا يجب ألاّ يفسر بأن فينيقي لبنان وآرامي سورية فقدوا طابعهم السامي، فان اللهجة الآرامية ظلت لغة العامة في سورية، كما أن اللهجة الكنعانية ظلت لغة العامة في لبنان “.وكذلك اذا طالعنا سفر الميكابيين الثاني نقرأ ” ابلونيوس بن ترساوس وكان اذ ذاك قائداً في بقاع سورية وفينيقية “. كما نرى آيات أخرى في سفر الميكابيين الثاني بذات المعنى مثل الآيات 9\8 ، 4\4 ،8\8 و 10\11.وهنا يحضرنا قول الأستاذ أنطوان اميل خوري حرب ” ان اسم لبنان ظل خلال العصور وبثبات، متوافقاً مع الوحدة الطبيعية الجغرافية لحدود لبنان المعاصرة، وان أي تغيير في هذه الحدود، أو أية تجزئة في هذه الوحدة، هو تشويه لكيان لبنان الطبيعي التاريخي، وبالتالي تشويه لاسمه. ان اسم لبنان قديم جداً بل أقدم من أسماء جميع البلدان القديمة منه كاسم سوريا وفلسطين والعراق ومصر. ان اسم لبنان مرتبط بالكتلة الجبلية التي يتكون منها، فثبت من دون سائر الأسماء التي أطلقت عليه أو شملته في مراحل مختلفة مثل كنعان وأمورو وزاهي وآرام وفينيقيا وغيرها… وفيما اضمحلت هذه التسميات ظل اسم لبنان معايشاً العصور التاريخية منذ أربعة آلاف سنة الى اليوم “.(1) – انطوان اميل الخوري حرب: اسم لبنان عبر العصور ،1979 ، صفحة 76 – 77.(2) – المصدر نفسه.(3) – كتاب تاريخ لبنان للدكتور فيليب حتي طبعة 1978 صفحة 225-226(4) – اسم لبنان عبر العصور، صفحة 76