حمايةٌ من دون بَدَل أتعاب
مطالبةُ السيدِ حسن نصرالله، أمينِ عامّ حزبِ الله، برئيسٍ “يَحمي ظهرَ المقاومةِ الإسلاميّةِ” تُذَكّرنا بمطالبةِ الميليشياتِ المسلَّحةِ الدولةَ سنةَ 1992، إذ لَحظَ اتفاقُ الطائف جَمعَ سلاحِ الميليشيات عمومًا، لكنَّ الجمعَ أتى جُزئيًّا وانتِقائيًّا فاستثْنى كليًّا سلاحَ حزب الله. وما خلا الجانبَ المسيحيَّ، لم يَعترِض على ذلك أركانُ اتّفاقِ الطائف وواضِعوه والحَريصون عليه، لا بل غَطَّوا بقاءَ هذا السلاحِ وسَوَّقوه في العالـمَين العربيِّ والدوليّ، وفتحوا لحزبِ الله قنواتِ اتصالٍ متعدِّدةً وجعلوه شريكًا مضارِبًا في القرارِ والسلطةِ والمفاوضاتِ الديبلوماسيّة. لا يضيعُ خطأٌ في الزمان.
مع الميليشياتِ القديمةِ كنّا نَعرِفُ أين يَبدأُ صدرُها وأين يَنتهي ظَهرُها. لكن أين ظهرُ مقاومةِ حزبِ الله ليحميَه الرئيسُ الجديد؟ الحدودُ مفتوحةٌ. هل تَبدأُ مقاومتُه من البقاعِ والضاحيّةِ الجنوبيّة؟ مِن الحدودِ الجنوبيّةِ ومزارعِ شِبعا؟ من حقولِ الطاقةِ في البحرِ ومدى الـمُسيَّرات في الجوّ؟ وأين تنتهي؟ في إيران وسوريا والعراق واليَمن ودولِ الخليجِ وما بعدَ “بابِ الـمَندِب”؟ في الجليلِ وغَزّة والقُدس وحيفا وما بعدَ حيفا؟
وَرطةُ لبنان أنَّ كلًّا من مكوّناتِه الكبرى اخْتلقَ “معتَقدًا” لا يُمسُّ وتَحصّنَ وراءَه كمرجِعٍ يُعبّر عن معيارِ وجودِه في الفَلَكِ اللبنانيّ. الشيعةُ ابتكروا “المقاومةَ الإسلاميّةَ” وقد صارت مجازيّة. المسيحيّون طرحوا “حقوقَ المسيحيّين” وقد أضْحت أيضًا مَجازيّة. والسُنّةُ استَحْدثوا “اتّفاقَ الطائف” وقد أصبحَ كذلك مجازيًّا. جَعلت هذه المكوّناتُ أو فئاتٌ أساسيةٌ منها هذه “المعتقداتِ الفئويّةَ” محورَ انتمائِها وعلاقتِها بالدولةِ اللبنانيةِ المركزيّة، عِوضَ أن يكونَ الانتماءُ إلى الكيانِ اللبنانيِّ مُحرَّرًا من أيِّ قيدٍ أو شرط. للوهلةِ الأولى نَظُن أنّنا أمامَ مسارٍ وطنيٍّ إيجابيٍّ، إذ صارت الفئاتُ اللبنانيّةُ تَشترِطُ ولاءَها للبنانَ بتأمينِ مطالبِها الذاتيّة، بينما كانت تاريخيًّا تَرهَنُ ولاءَها للكيانِ اللبنانيّ بتأمينِ مصالحِ دولٍ عربيّةٍ وأجنبيّةٍ فيه. لكنْ ما إِن تَحُفُّ بورقةِ “المطالبِ الذاتيّةِ” حتى تَكتشِفَ أنّها غِلافٌ يُخبِّئ تحتَه مطالبَ الدولِ الخارجيّةِ نفسِها مع زيادةِ إيران إلى اللائحة.
ما عادت “حقوقُ المسيحيّين” بالشكلِ المطروح شِعارًا يؤْمِن به المسيحيّون لأنَّ ما خَسِروه هو بسببِ قياداتِـهم وأحزابِـهم، ولأنَّ استرجاعَ ما خَسِروه لا يُستعادُ من خلالِ هذا النظامِ المركزيّ. و”مقاومةُ” حزبِ الله فَقدَت بريقَها ودورَها الـمُمانِع وأمْسَت سلاحًا للاحتفاظِ بدويلةِ الحزبِ وإيران، وللسيطرةِ على الدولةِ اللبنانيّةِ الشرعيّة. أما “الطائفُ” كدستورٍ، فلم يُعزِّز دورَ السُنّةِ بقَدْر ما تَوقّعوا، إذ انْتشَلَته منهم سوريّا أوّلًا ثم طوائفُ أخرى، وبات دَمْغةَ مساحةٍ يُؤْثِرُ السُنّةُ خصوصًا عدمَ التراجعِ عنها. لا بل صار “الطائفُ” يَرمُز إلى دورِ السعوديّةِ الإيجابيِّ في لبنان أكثرَ مِمّا يرمزُ إلى دورِ السُنّةِ الدستوريِّ في لبنان.
طبيعيٌّ ألّا يَغدُرَ أيُّ رئيسِ جُمهوريّةٍ جديدٍ، مهما كان انتِماؤه، بأيِّ مُكوِّنٍ أو جماعةٍ أو حزبٍ، بما في ذلك حزبُ الله الذي تَساهلت معه الدولةُ عقودًا حتى بات حالةً خاصّةً كمُشكلٍّ وكحَلٍّ وكواقعٍ جيوديمغرافيّ. لكنَّ واجبَ هذه القوى، وبخاصّةٍ حزبُ الله، ألا تَغدُرَ بالدولة اللبنانية وتُعطِّلَها. لا يُعقَلُ أن “تغطّيَ” الدولةُ حزبَ الله، وهو يَكشِفُها.
لا قدرةَ ولا حَقَّ أخلاقيًّا ووطنيًّا لأيِّ رئيسِ جمهوريّةٍ أن يَستوعِبَ أيَّ حزبٍ خارجَ إطارِ الدستورِ والـمُمكن ومن دونِ مشروعٍ متكاملٍ لحلِّ الأزْمةِ اللبنانيّة. ولا أرى في هذا السياقِ رئيسًا جديدًا يَنتزعُ من المسيحيّين شيئًا بعدَ تنازلاتِهم في اتفاق الطائف، ويُعلن إلغاءَ اتفاقِ الطائفِ في الحالةِ السُنيّةِ القائمةِ ومن دونِ قرارٍ عربيٍّ ودوليّ، ويُنذرُ حزبَ الله بتسليمِ سلاحِه فورًا.
إنَّ تجاوبَ الرئيسِ الجديدِ مع مطلبِ السيد حسن نصرالله بعدمِ الغَدرِ بــــ”المقاومة”، واستيعابَ حزبِ الله يَستلزمُ مسبقًا التزامَ الأخيرِ بما يلي: 1) تحييدُ سلاحِ حزبِ الله عن السيطرةِ على قراراتِ الدولةِ خارجَ القواعدِ الديمقراطيّة. 2) خضوعُ حزبِ االله، بمنأى عن سلاحِه، للدستورِ اللبنانيِّ والقوانينِ اللبنانيّةِ والميثاقيّة اللبنانيّة. 3) تنفيذُ بنودِ القرارِ الدُوَليِّ 1701 فينسحبُ خصوصًا من جنوبِ الليطاني. 4) وقفُ الاعتداءِ على القوّاتِ الدُوليّةِ وعدمُ منعِها من القيامِ بواجباتِها وصولًا إلى اغتيالِ عناصرِها. 5) الامتناعُ عن التصدّي لدورِ الجيشِ اللبنانيِّ في الجنوبِ وفي أيِّ منطقةٍ أخرى. 6) التخلّي عن الحلولِ مكان الدولةِ في المفاوضاتِ الدُوليّةِ حولَ تَثبيتِ حدودِ لبنان والاتفاقاتِ الأخرى. 7) الامتناعُ عن تعكيرِ عَلاقاتِ لبنان بالدولِ الصديقةِ وقَبولُ ضبطِ الحدودِ اللبنانيّة/السورية. 8) الانصرافُ عن التعاطي في شؤونِ المؤسّساتِ الرسميّة، لاسيما مؤسّسةُ القضاءِ، ورفعُ الحَظرِ عن التحقيقِ في مرفأ بيروت وغيرِه من القضايا. 9) التنحّي النهائيُّ عن سياسةِ تعطيلِ الاستحقاقاتِ الدستوريّةِ من نيابيّةٍ وحكوميّةٍ ورئاسيّةٍ وتأخيرُها أشهرًا وسنوات. 10) الانسحابُ العسكريُّ من حروبِ دولِ الشرقِ الأوسط.
انطلاقًا من التزامِ حزبِ الله بهذه البنودِ البديهةِ، يبدأ الحوارُ مع الرئيس الجديدِ حولَ “حمايةِ الظَهر”… إذ كيف لحزبِ الله ـــ أو غيرِه ـــ عدمُ الالتزامِ بأبسطِ المواقفِ الشرعيّةِ ويُطالبُ الدولةَ بتغطيةِ أعمالِه غيرِ الشرعية؟ في مثلِ هذه الحال يُمسي رئيسُ الجُمهوريّةِ وكيلًا حصريًّا للدفاعِ عن حزبِ اللهِ على حسابِ لبنان وشعبِه. هذا “التفاهمُ الأوّلي” بين الرئيسِ الجديدِ وحزبِ الله من شأنه ـــ في حالِ تنفيذِه ـــ أن يَخلقَ أجواءَ ثقةٍ تؤدّي إلى حسمِ موضوعِ سلاحِ حزبِ الله بموازاةِ التحوّلاتِ اللبنانيّةِ اللامركزيّةِ والمتغيّراتِ الإقليميّةِ.
لا أدري إذا كانت نِيّاتُ حزبِ الله تلتقي مع هذ المنطقِ، منطقِ الدولة، أم يَنتظرُ السيدُ حسن من رئيسِ الجُمهوريّةِ اللبنانيّةِ حمايةً كاملةً لظَهرِ الحزبِ المترامي شرقًا وغربًا والمتورِّطِ في كلِّ صراعات الشرقِ الأوسطِ والمشروعِ الإيرانيّ ومن دونِ أي بديلٍ؟ لكنَّ الخوفَ الأساسيَّ أن يكونَ هدفُ حزبِ الله مزدَوجًا: الأوّلُ أنْ يُبرِّرَ تمسُّكَه بمرشَّحه لرئاسةِ الجمهورية دون سواه
حمايةً لظَهرهِ، والآخَرُ أنْ يُلهينا بظَهرِ المقاومةِ عن طرحِ موضوعِ سلاحِه الذي هو الموضوعُ الأساس.
الوزير السابق سجعان قزي