غيّروا لبنان لا سويسرا
لا نُعارضُ ندوةَ سويسرا شغفًا باتّفاقِ “الطائف”. كلُّ لبنانيٍّ يَتمتّعُ بحقِّ قَبولِ ذاكَ الاتّفاقِ أو معارَضتِه. لكنّنا نَخشى في هذه الظروفِ بالذاتِ أن نكونَ عاجِزين عن صَوْغِ اتفاقٍ جديدٍ غِرارَ ما حصلَ في اليمنِ والعراقِ وسوريا وليبيا ونَستِقرَّ في الفوضى المستباحَة. ولا نضعُ ڤيتو على عقدِ ندوةٍ حولَ لبنان في سويسرا، فهي دولةٌ صديقةٌ دَغْدَغ نظامُها الفدراليُّ عقولَ لبنانيّين، واخْتزَنَت مصارفُها ودائعَ اللبنانيّين الماليّةّ، وخَزَنَت ألسِنتَهم.
منذ الثمانينيّاتِ ولبنانُ يَعقِد تحتَ وصايةٍ سوريةٍ مؤتمراتٍ بين جنيف ولوزان ومونترو، وجميعُها تَكلَّلت بالفشلِ وغَرقَت أمامَ نافورةِ المياهِ العاليةِ 140 مترًا وسْطَ بحيرةِ جنيف. وما مُنينا بذاك الفشلِ بسببِ التعديلاتِ الدستوريّةِ التي حصلت لاحقًا في “مؤتمرِ الطائف” على أساسِ غالبٍ ومغلوبِ، بل بسببِ موقفِ سوريا من اتفاقيّةِ 17 أيار سنة 1983 حيث رَبطت دمشقُ الموافقةَ عليه باتّفاقٍ مماثلٍ مع إسرائيل. لا صلحَ لبنانيًّا مع إسرائيل قبل صلحِ سوريٍّ معها.
توجَّسَ اللبنانيّون أن تؤدّيَ ندوةُ جنيف إلى الطعنِ الفوريِّ في “اتفاقِ الطائف” مثلما حَصَل باتفاقيّةِ 17 أيار في مؤتمري جنيف 1983 ولوزان سنة 1984. لذلك حين طرحَ غِبطةُ البطريركِ الكاردينال مار بشارة الراعي سنةَ 2019 فكرةَ مؤتمرٍ دُوَليٍّ خاصٍّ بلبنان اختارَ الأممَ المتّحِدةَ لرعايَتِها من دون تحديدِ مكانِها. لبنان لا يُناصِبُ العداءَ أيَّ دولةٍ شرقيّةٍ أو غربيّة. الـمُهِمُّ انعقادُ المؤتمر، جدولُ أعمالِ المؤتمر، والمرجِعيّاتُ العربيّةُ والدُوليّةُ التي ستَضمَن المؤتمر. واللافتُ أنَّ دولةَ سويسرا غَسلَت يَدَيها من مسؤوليّةِ المؤتمرِ وأناطَتْها بمؤسّسةٍ غيرِ حكوميّةٍ تُدعى “منظمةَ مركزِ الحوارِ الإنساني”.
الأخطرُ من ذلك، أنَّ دولةَ سويسرا هي فريقٌ، لا حَكَمٌ، قُبض عليه بالجرمِ المشهودِ حيالِ القضيّةِ اللبنانيّة، لاسيّما في السنوات الستِ الأخيرة. كانت سويسرا محاورِةَ إيران وحزبِ الله باسم دولٍ أوروبيّةٍ. حاولت فتحَ خطوطِ اتّصالٍ سياسيّةٍ بين حزبِ الله وقوى لبنانيّةٍ. التُقِطَت تُسوِّقُ لنظامِ المثالَثةِ في لبنانَ على حسابِ التعدُّديةِ اللبنانيّةِ. دَعت إلى مجموعةِ ندواتٍ خاصّةٍ بلبنان في مدينةِ مونترو وتَسبَّبت في فَشلِها لأنّها انتَقَت توجيهَ الدعواتِ على هَواها. وَجَّهت الدعواتِ إلى أطرافٍ ثانويّين وأهْملت آخَرين أساسيّين. ارتأت في السنواتِ الأخيرةِ التفاوضَ مع حزبِ الله حولَ “المؤتمرِ التأسيسي” الذي نَظرَت إليه أكثريّةُ الشعبِ هَدمًا بُنيويًّا لمشروع لبنان الكبير سنة 1920 وإعادةَ بنائِه كجُزءٍ منِ المشروعِ الإيراني.
وما أثار مخاوفُ عديدةٌ هو اللَغطُ العبثيُّ حولَ من يَتولى مهامَ رئاسةِ الجُمهوريّةِ بعد مَضِيِّ المهلةِ الدُستوريّةِ دون انتخابِ رئيس. هذا الحراكُ السويسريُّ تَرافق زمنيًّا مع اندلاعِ انتفاضةِ 17 تشرين الأوّل 2019 التي لعبت السفارة السويسريّةُ دورًا في تأجيجِها عبرَ المنظّماتِ غيرِ الحكوميّةِ (ONGI)، مع أزمةِ نظامٍ لبنانيٍ، مع تَعثّرِ تشكيلِ حكومة، مع استحالةِ انتخابِ رئيسٍ جُمهوريةٍ. الحقيقةُ أنَّ حكومةَ جُنيف رَغِبَت من خلالِ جميعِ هذه المبادراتِ الجماليّةِ تَقصّي عن دورٍ مفقودٍ يُعيد إليها وَهجَ الحِيادِ انطلاقًا من بلدٍ يُنقِّب عنه (لبنان) بعدما بات يَتأرجح في سويسرا إثرَ الحربِ بين روسيا وأوكرانيا.
وفيما أخذت الندوةُ ـــ في حالِ انعقادِها ـــ طابِعَ تعزيز الدورِ الشيعيِّ على حسابِ الدورِ السُنِّي، وطابَع الاعترافِ بدورِ المسلمين عمومًا على حساب دورِ المسيحيّين، دعت سويسرا أطرافًا وتَجاهلت أطرافًا أخرى من دونِ أيِّ معيارٍ انتخابيٍّ وسياسيّ. لذلك نتوجّه إلى جَهابذةِ السياسةِ السويسريّةِ لنُبلغَهم دونَ أيِّ حياء، بأن لا سويسرا ولا غيرَها، ولا من يُحرِّضونَها على هذا الدور الخبيث، يَملِكُون حقَّ البحثِ في تقريرِ مصيرِ لبنان في غيابِ ممثّليِ نبضِ الشعبِ اللبنانيِّ المسيحيِّ والمسلِم. أحقًّا تعتقد سويسرا وفرنسا العَلمانيّةُ بأنّهما تستطيعان مناقشةَ مصيرَ لبنان في غيابِ ممثلّي البطريرّكيةِ المارونيّة؟ أليس لدى هاتَين الدولتَين سفيرتان تُميزان بين الحقِّ والباطل؟ أم تَعتبران الديبلوماسيَّةَ فَنَّ رشفِ القهوةِ صباحًا، والشاي الأخْضَرَ بعدَ الظُهرِ، والسَهرِ الـمُستدامِ في التوقيتَين الصيفيِّ والشَتويّ؟
محاولةُ الاتّحادِ السويسري عقدُ ندوةٍ حولَ لبنان، تَحمِل في طيّاتِها خفايا إقليميةً ودُوليّةً ستَظهرُ تدريجًا. أوّلُ مؤشّراتِ الندوةِ، قبلَ أن تنعقدَ، إقدامُ الأحزابِ اليمينيّةِ كحزبِ القوميّين السويسريّين والحزب القوميِّ السويسريِّ على إعادة تثبيتِ الدستورِ الفِدرالي والحياديِّ بعدما حاولت بعضُ أحزابِ الوسطِ التلاعبَ على الحياد. في هذا الإطار، قامت سويسرا بعدّةِ مبادراتِ لتُجدِّدَ تَموضُعَها دوليًّا، فزار رئيسُها اينياسيو كاسيس (Ignazio Cassis) بريطانيا وأجرى مفاوضاتٍ للحصولِ على مقعدٍ دائمٍ في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ووقع في لندن “إعلانَ نِيّات.
لكن أمس شعرت سويسرا بثقل المشروع عليها، فطَلبت “بِرن” مواعيدَ من الفاتيكان وباريس والرياض لشرحِ موقفِها لدى العواصم الثلاث. فهذه الدولُ شعرت بأنَّ دولًا من الاتّحادِ الأوروبيِّ أوكلَت إلى سويسرا مهمةَ معرفةِ مدى قبولِ لبنان والسعوديّةِ انطلاقَ الإصلاحاتِ الدستوريّةِ من “الطائف” فجُوبهت برفضٍ واضحٍ. فالسفير السعودي في لبنان أبلغ من يعنيهم الأمر”: ليست السعوديّةُ بموقعِ التسليمِ بالمسِّ “باتفاقِ الطائف” الذي هو رمزُ الدورِ السعوديِّ في لبنان منذ ربع قرن”. وشَدّدَ على أن ما “يقوم به هو موقف أملاهُ الديوانُ الملكيُّ في الرياض، خصوصًا أَّنَّ المملكةَ تدرك تمامًا ما هو الهدف من المسِّ بالطائف”. غيرَ أنَّ المملكةَ اكتشفت من خلال هذه الأزَمةِ مدى تمسّكِ اللبنانيّين بهذا الاتفاقِ من جهةٍ، ومدى الإزعاجِ الذي سبَّبته لواشنطن زيارةُ حاكم أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد إلى روسيا غداةَ القصف الروسي المدَمِّر على أوكرانيا.
الوزير السابق سجعان قزي