معادلةُ جبران خليل جبران
جميعُ طوائف لبنان، أكانت قويّةً أم ضعيفةً، تجتازُ أزَمات. وعوضَ أن تُوحِّدَها الأزَماتُ تُفرِّقُها. ما يُميّزُ أزْمةَ المسيحيّين أنها أزمةٌ وجوديةٌ بينما أزماتُ الآخَرين سياسيّة. الفئاتُ الأخرى تَطمَحُ إلى مزيدٍ من الرُبحِ، والمسيحيّون يحاولون الحدَّ من الخَسارة. الفئاتُ الأخرى تَدخُل إلى المستقبلِ اللبنانيِّ، والمسيحيّون يَخرجون منه. الفئاتُ الأخرى تَبحثُ عن وجودِها في السلطةِ، والمسيحيّون عن وجودِهم في الجُغرافيا اللبنانيّة. يَشعرُ المسيحيّون، وبخاصّةٍ الموارنةُ، أنهم أسّسوا هذه الدولةَ/الوطن، وها هي تُنشَلُ منهم وصاروا مخيَّرين بين اتّباعِ الآخَرين أو الهِجرةِ من دونِ أن يُفكِّروا بخِيارِ المواجهةِ، أو على الأقل بخِياراتٍ دُستوريّةٍ أخرى وتنفيذِها من دونِ خَجَلٍ أو حَرَج.
باتَ الرأيُ العامُّ المسيحيِّ يُحمِّلُ المسؤوليّةَ الرئيسيّةَ لضُمورِ السلطةِ المارونيّةِ لدى بعضِ القوى المارونيّةِ وزعمائِها الّذين انتقلوا من مقاومةِ الأعداءِ إلى الاقتتالِ في ما بينَهم، ثم إلى العَداءِ الحاقِد من خلال تحالفاتٍ هجينةٍ وتَبعيّةٍ، فأَنْهكوا شعبَهم ومجتمعَهم. وبمنأى عن مواقفِ بعضِ الأطراف، بما فيها حزبُ الله، ما كان لبنانُ بَلغَ هذه الحال لو كانت تَصرّفاتُ بعضِ القادةِ المسيحيّين وخِياراتُهم وتحالفاتُهم من التسعينيّات الماضيةِ حتى اليوم مختلفةً، ولَمَا كانت رئاسةُ الجُمهورّيةِ تَعرّضَت للإهانةِ والإذلالِ لو كان بعضُ هذه القياداتِ تهيَّأَ للاستحقاقِ الرئاسيِّ بشكلٍ آخَر، وواجَهَه بأسماءَ أُخرى. ألا نرى كيف جميعُ الأطرافِ يَمرحُون ويَتسلَّون ويَهزأُون بالمرشّحينَ الموارنِةِ إلى رئاسةِ الجُمهوريّة كأنّهم كُراتُ بِلْيارد؟
لم تُسلِّم الطوائفُ الأُخرى برئاسةِ الجُمهوريّةِ للموارنةِ لأسبابٍ تأسيسيّةٍ وتاريخيّةٍ وميثاقيّةٍ فقط، بل لأسبابٍ نُخبوّيةٍ أيضًا، إذ كان الموارنةُ في ما مضى يُقدِّمون أفضلَ الشخصيّاتِ وأصْفاها وأرْفعَها شأنًا. وكانت الطوائفُ تَحتارُ من تَنتقي بين الحسنِ والأَحسن، وليس بين السيِّئِ والأسوأ. الحقيقةُ، أنَّ السنواتِ الستَّ الأخيرة، حتّى قبلَ بَدئِها، كانت قاتلةً للوجودِ المسيحيّ. والشعبُ الآن يريد قادةً جريئين ومرشَّحين آخَرين.
المسيحيّون، بل سائرُ اللبنانيّين، يريدون قادةً جَريئين ومناضِلين ومقاومِين. قيمةُ الشجاعةِ أن تُجاهِرَ بما تؤمنُ به مهما كانت القضيّةُ شائكةً، ومهما كانت قوّةُ خَصمِك، ومهما كانت الصعوباتُ التي ستواجِهُها. لا شجاعةَ من دون تحدٍّ. ولا مذاقَ للانتصارِ من دون رفعِ التحدي، ولا لَذّةَ للانتصارِ ما لم يكن ثمرةَ موقفٍ شُجاع. وحدَه الشجاعُ هو إنسانٌ حرّ.
الشجاعةُ هي الحلُّ الأوّلُ والأخيرُ في استحقاقِ رئاسةِ الجمهوريّة. بمعنى أنَّ المطلوبَ مسؤولٌ سياسيٌّ أو رسميٌّ يَكسِرُ هذا العجزَ المتَعمَّدَ ويَضعُ الجميعَ أمامَ مسؤوليّاتِهم: أَو تَنتخبون رئيسًا للجُمهوريّةِ وإمَّا لكلٍّ منّا جُمهوريّتُه. وأصلًا نحن نعيشُ في جُمهوريّاتٍ ومجتمعاتٍ وأنظمةٍ وأنماطِ حياةٍ مُختلِفة. ورجاءً لا تَتظاهروا باسْتهوالِ هذه العبارةِ فتُفسِّروها خارجَ إطارِها الواقعيِّ. لقد سَبقَ لجبران، جبران خليل جبران، أن ْكتبَ مرادِفَها: “لكم لبنانَكُم ولي لبناني” (مجلة “الهلال” 1920). وهذا التعبيرُ الثائرُ ليس محصورًا بالمسيحيّين، بل بكلِّ لبنانيٍّ، مسلمٍ ومسيحيٍّ، كَفَر بما آلَ إليه لبنان. صارت الهِجرةُ وصيّةَ الآباء.
شَبِعَ اللبنانيّون تخوينًا باطلاً يَسوقُه حزبُ الله مجّانًا ضِدَّ القِوى السياديّة. كيف يَدّعي رئيسُ الكُتلةِ النيابيّةِ لحزبِ الله الحاج محمد رعد (وغيرُه) أنَّ السياديّين هم عبيدُ وخُدّامُ أسيادِهم (أميركا) وإسرائيل؟ ألِـمُجرّدِ أن يعارِضَ حزبا الكتائبِ اللبنانيّةِ والقوّاتِ اللبنانيّةِ والسياديّون الآخَرون سياسةَ حزبِ الله يُصبحون خُدّامًا لإسرائيل وعبيدًا؟ أهذه الأحزابُ أم هو حزبُ الله مَن أعطى الضوءَ الأخضرَ ورَعى وأشْرفَ وسَمحَ ونَظّم الشراكةَ اللبنانيّةَ ــ الإسرائيليّةَ لاستخراجِ النفطِ والغاز في بحرِ الجنوب؟ بمثلِ هذه الاتّهاماتِ الـمُجحِفةِ يُرغِمُنا حزبُ الله على الردِّ عليه، بينما نَنشُدُ الحوارَ معه والاتّفاقَ على لبنان الجديد.
لا يستطيعُ البعضُ خَلقَ جُمهوريّتِه الكاملةِ التجهيز، ويأتي يَتسلّى بالجُمهوريّةِ الشرعيّة. ولا نستطيعُ القبولَ بأن يأخذَ انتخابُ رئيسِ الجُمهوريّةِ، كلَّ مرّةٍ، أسابيعَ وأشهرًا وسنواتٍ، والآخرون يَتمتّعون بجُمهوريّتِهم ويَسعَوْن إلى وضعِ اليَد على الجمهوريّةِ الأصيلة. لا هذا هو الدستورُ، ولا هذا هو الميثاقُ، ولا هذه هي الأعرافُ، ولا هذه هي القوانينُ الدُوليّةُ، ولا هذه هي أصولُ التعاطي بين شركاءَ في الوطنِ الواحِد. السياسيّون يَقاربون الاستحقاقَ الرئاسيَّ بطريقةٍ تقليديّةٍ، كأنَّ الأمرَ يَقتصرُ على ملءِ فراغٍ في منصِبٍ، بينما الرهانُ الحقيقيُّ هو استعادةُ وطنٍ سليبٍ من خلالِ رئيسٍ يَفهمُ معنى القضيّةِ اللبنانيّةِ التاريخيّةِ قبل أن يكونَ من مِـحورِ الممانعةِ أو من جَبهةِ السياديّين، لاسيّما أنْ ليس كلُّ من ادّعَى السيادةَ بسياديّ.
انتخابُ رئيسٍ مميَّزٍ ذي بُعدٍ تاريخيٍّ هو الممرُّ الإلزاميُّ للّذين يريدون انعقادَ مؤتمرٍ دُوَليٍّ خاصٍ بلبنان يُجِّددُ ضمانَ الوجودِ اللبنانيِّ المستقِلِّ والديمقراطيِّ بين الأمم، أو للّذين يطالبون بمؤتمرٍ تأسيسيٍّ يُعيد النظرَ بأدوارِ الطوائفِ والمذاهبِ في السلطةِ اللبنانيّةِ على أساسِ العددِ والسلاحِ خلافَ مبدأ التعدديّة.
الاستحقاقُ الرئاسيُّ يَقِف الآن داخليًّا أمام المعادلةِ التالية: حزبُ الله يَتطلّعُ إلى رئيسٍ من فروعِه يَلتزمُ دعمَ المقاومةِ وعدمَ طعنِها، أي تأييدَ مشروعِها، في حين أنَّ رئيسَ الجُمهوريّةِ الجديدَ هو من يحتاجُ ضماناتٍ من حزبِ الله. والأطرافُ الآخرون يرفضون، بالمقابل، أن يكونَ رئيسُ الجمهوريّةِ مندوبَ حزبِ الله في قصرِ بعبدا. ولا يبدو أنَّ هذه المعادلةَ قابلةُ التعديل في المدى المنظور. تخطّي هذا الحاجزِ الداخليِّ يَستدعي، للمُراهنين على الخارج، بروزَ مُعطى خارجيٍّ يؤثّرُ على القوى اللبنانيةِ.
هناك من يراهنُ على مصيرِ “ثورةِ الحجابِ” في إيران والاضطراباتِ، ولا يَستبعد أن تَلِجَ إيران حالةً تُشبه ما كان يُسمّى بـــ”الربيعِ العربيِّ” الذي استنزفَ الأنظمةَ وقَسّمَ الدولَ وخَرَبَ الـمِنطقة. وهناك من يُتابعُ تطوّرَ الخلافِ السعوديِّ/الأميركيِّ حولَ نسبةِ إنتاجِ النفط وأسعارِه، وهو خلافٌ مرتبطٌ بمدى استمرارِ الحربِ بين روسيا وأوكرانيا، ولكنّه لا يؤثِّرُ على العَلاقاتِ الاستراتيجيّةِ بين أميركا والسعوديّة. وهناك مَن يَرصُدُ العمليّاتِ العسكريّةَ الإيرانيّةَ في العراق، والتركيّةَ في سوريا والعراق، وأحداث إسرائيل، لمعرفةِ خطِّ السيرِ ومصيرِ سيادةِ دولِ الـمِنطقةِ بما فيها لبنان. من جِهتنا نريدُ أنْ نَخرجَ من عادةِ انتظارِ التطوّراتِ الخارجيّةِ غير المتناهيةِ، ونأخذَ المبادرةَ ونَبنيَ لبنانَ الذي يُشبِهُ اللبنانيّين. كلّما انتَظَرنا خَسِرنا وكلّما بادَرنا انتصَرْنا.
الوزير السابق سجعان قزي