ميثاقُ الإمارةِ ودُستورُ الجُمهورية

ميثاقُ الإمارةِ ودُستورُ الجُمهورية

حين كان لبنانُ بعدُ إمارةً، ولم يَتحوّل جُمهوريّةً تَتمتَّعُ بدستورٍ يُنظّمُ انتقالَ السلطة، التقى في “مَرْجِ السمقانية” في أعالي الشوف سنةَ 1697 أعيانُ الإمارةِ لاختيارِ خليفةٍ للأسرةِ الـمَعنيّةِ التي انقَرضَ نَسلُها مع وفاةِ الأميرِ أحمد المعنيّ. انتخَب المجتمِعون الأميرَ بشيرَ الشهابيَّ الأوَّل رغم أنَّ العثمانيّين كانوا يُفضلِّون نجلَه الأميرَ حيدر. لم يَحُلِ انتماءُ الشهابيّين إلى المذهبِ السُنيِّ وإلى مِنطقةِ وادي التيم دونَ خلافةِ الأمراء الدروز المعنيّين. أما الأعيانُ الدروزُ فلعِبوا دورًا محوريًّا في العهودِ الشهابيّة.

إن دلَّ ذاك المسارُ السِلميُّ لانتقالِ السلطةِ على شيءٍ، فعلى أنَّ اللبنانيّين كانوا حَريصين على ما يلي: الحفاظُ على وحدةِ الإمارة التي كانت مُعرَّضةً لإعادةِ النظر. الخِيارُ “الوطنيُ” للخلافةِ مع اعتبارِ رأي السلطنةِ العثمانيّة. المحافظةُ على التحالفِ الـمَعنيِّ/الشهابيِّ خصوصًا أنَّ سياسةَ الشهابيّين الاستقلاليّةَ كانت تتمةً للسياسةِ المعنيّة. حِرصُ المعنيّين والشهابيّين على أَن يَتمَّ الخيارُ انتخابًا وعلى أرضِ الإمارةِ فلا يأتي التعيينُ من البابِ العالي ما يُـثبِّتُ حالةَ “الحكمِ الذاتيّ”. إبقاءُ الوراثةِ بين العائلتَين المعنيّةِ والشهابيّةِ نظرًا للتحالفِ التاريخيّ بينهما، ووجودِ صِلاتٍ عائليّةٍ مباشرةٍ تَجمعُهما، واشتراكِهما جَنبًا إلى جنبٍ في غالِبيةِ المعارك.

أما اليوم ــــ وقد أصبحنا جُمهوريّةً تَملِكُ دُستورًا يُنظِّمُ بالتفاصيلِ آليةَ انتخابِ رئيسِ جُمهوريّة يؤمِّن تداولَ السلطةَ ـــ فلا تَجدُ القِوى النيابيّةُ “مَرجًا” لانتخابِه. حين تكون أسهلُ الحلولِ أصعبَها يَعني غيابَ إرادةِ الحلِ لدى القوى السياسيّة. كلُّ فريقٍ ينادي بالحوارِ وبالتوافق، ولا يَحيدُ احدٌ قيدَ أُنملةٍ عن مرشَّحِه وموقفِه. تَقدَّمنا “دُستوريًّا” وتراجَعنا وطنيًّا. أصْبحنا جُمهوريّةً ولم نُصبح جُمهوريّين. صِرنا كِيانًا ولم نَصِر كيانيّين. لم تَعقُب الأواصرَ العائليّةَ زمنَ الإمارةِ الأواصرُ الوطنيّةُ. تَداخلَ المسارُ العنفيُّ والتعطيليُّ مع المسارِ السلميِّ والدستوريِّ في كلِّ عمليةِ انتقالِ السلطةِ في مؤسّسةٍ دُستوريّة. كأنَّ ميثاقَ الإمارةِ أقوى من دستورِ الجُمهوريّة. الحقيقةُ إنَّ فكرةَ لبنان، مستقلًّا أو تحت وصايةٍ، هو فكرةٌ ميثاقيّةُ قبلَ أن تكونَ دُستوريّةً. الدليلُ أنَ جميعَ الدساتير اللبنانيّة بُنيَت على التعدّديّةِ الميثاقيّة. وإذا تَعمّقنا في أزمةِ الاستحقاقِ الرئاسيِّ نَكتشف أنَّ بعدَها ميثاقيٌ أكثر ممّا هو دُستوري. إنها صراعٌ ميثاقيٌّ حولَ أدوارِ الطوائف والمذاهب في السلطة.

الشعبُ يَتطلع إلى من يَنتشِلُه من بَلواه، ويناشدُ جميعَ القوى الحزبيّةِ والسياسيّةِ والنيابيّةِ الارتفاعَ إلى مستوى اللحظةِ التاريخيّة. لكنَّ الشعورَ الوطنيَّ السياسيَّ لدى الجماعةِ السياسيّةِ في لبنان تَدنّى حتّى فَقدت الحياةُ الوطنيّةُ اللبنانيّةُ مرجِعيّةً مدنيّةً مسموعةَ الكلمةِ والرأيِ، وقادرةً على قيادةِ وساطةٍ يَتجاوب معها الأطرافُ السياسيّون للخروجِ من أزمةِ الشغورِ الرئاسيِّ أو أيِّ أزْمةٍ أخرى. لذلك تتركُ فئاتٌ كثيرةٌ الانطباعَ أنها تَبحثُ عن “عُثمانيٍ ما” يَفرِضُ علينا رئيسًا. تَنتظر الفرجَ من الخارج، واهتمامُ الخارجِ في مكانٍ آخَر. خصوصًا يبدو أنَّ الخارج لا يطرحُ حلًا حقيقيًّا للبنان بقدر ما يحاول غسلَ يديْه من مشكلةٍ تَتخطى حدودَ لبنان. لا بل أنَّ خلافاتِه على موضوعِ الرئاسةِ لا تَقِلُّ عن خلافاتِ اللبنانيّين بشأنِها.

بعضُ السياسيّين يَنتظرُ اسمًا يَخرجُ من تسويةٍ ما، وبعضُهم يَنتظر رئيسًا يخرجُ من موازينِ القوى، والبعضُ الآخَرُ ينتظرُ رئيسًا يَخرجُ من لقاءاتٍ أجنبيّةٍ، بينما الطريقُ الدستوريُّ أنْ تتشاور الكُتلُ النيابيّةُ في ما بينها على مرشحٍ أو مرشَّحين سياديّين يلتزمان الدستورَ والميثاقَ والثوابتَ اللبنانيّةَ وسيادةَ الدولة، وتَذهبُ إلى المجلسِ النيابيِّ وتَنتخبُ أحدَهما.

لا تنتخبون رئيسَ توافقٍ ولا رئيسَ تحدٍ ولا رئيسًا مدنيًّا ولا عسكريًّا ولا تقنيًّا، ولا تدَعُون غيرَكَم يُساعِدكم على اختيارِ مرشّحٍ محترمٍ، فماذا تريدون؟ سقوطَ لبنان؟ خرابَ البلد؟ نهايةَ الجُمهوريّة؟ تغييرَ الدستور؟ هِجرةَ شعب لبنان؟ من أجل ماذا تفتعلون هذه الأزمة المستدامةَ؟ من أجلِ إدامةِ عهودِ الفسادِ وتعطيلِ الدولةِ والسيطرةِ على مقاليدِها والتحكّمِ بقراراتِها؟ لقد بات على كلِّ مُكوِّنٍ لبنانيٍّ، أكان مسيحيًّا أم سُنيًا أم شيعيًّا أم دُرزيًّا، مؤمنٍ بوحدةِ لبنان ونظامِه الديمقراطيٍّ بأن يُدركَ بأنّه عاجزٌ عن تسييلِ أو تصريفِ معتقداتِه ومشاريعِه الخاصّة من خلال هذه الجُمهوريّة.

وإذا نَجحَ المعنيّون والشهابيّون في أواخرِ القرنِ السابعَ عشرَ في تجاوزِ مرحلةِ الخِلافةِ حفاظًا على وحدةِ الإمارةِ والحكمِ الذاتيّ، فقِوى سياسيّةٌ لبنانيّةٌ الآن تَخلُق أزمةً من الاستحقاقِ الرئاسيِّ، مع أنَّ تداولَ السلطةِ ليس أزمةً بل حلٌّ. لكنَّ هذه القوى تَتصرّفُ خلافَ السلوكِ المعنيِّ والشهابيِّ لأنَّ لديها مشاريعَ مناقضةً للجُمهوريّةِ وحتى للإمارةِ والحكمِ الذاتيّ.

غريبٌ أن تعيدَ بعضُ القوى الدينيَةِ لبنانَ إلى ما قبلَ “مرج السمقانية”، بل إلى ما قبلَ نشوءِ الإمارةِ ثم الجُمهوريّة. في هذا السياقِ، إنَّ الجماعاتِ المنتشرةَ في المشرق الأرامي ـــ السرياني ـــ العربي من سُنةٍ وشيعةٍ ومسيحيّين ودُروزٍ وأكرادٍ وعلويّين وتركمان، إلخ… تُطالب بالفِدراليّةِ وبالحكمِ الذاتيِّ وبالانفصالِ عن دولِـها القائمة. ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يزايدَ على أحد.

الواقعُ أنَّ لبنانَ يعيش أمام خِيارين: إما انتخابُ رئيسٍ لكلِّ لبنان يحافظُ على وحدةِ الجُمهوريّة وخصوصيّتِها، وإما الانتقالُ إلى جُمهوريّاتٍ مجهولةٍ تُعيدنا إلى القرنِ السابعَ عشر حين كانت تَنبُتُ حولَ إمارةِ الجبل إقطاعياتٌ يَدعمُها العثمانيّون ضِدَّ الإمارةِ لإضعافِ الحكمِ المعنيِّ ثم الشهابيّ.

الوزير السابق سجعان قزي

#bkerki2020

Spread the love

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *