رسالةُ لبنان تُحتِّمُ عليه الانحيازَ، إنه وطنُ القلب. ومَوقِعُه يُحتِّم عليه الحيادَ، إنه في قلبِ الأزَمات. والمعادلاتُ الإبداعيّةُ في العِلمِ والفلسفةِ، وحتى في السياسةِ، غَالباً ما تنشأُ مِن مَزْجِ التناقضاتِ أكثر من جَمْعِ المتَشابِهات. أنّى للبنانَ إذَن أنْ يُوَفِّقَ بين رسالتِه التاريخيّةِ ومَوقعِه الجيوسياسي، وبين فِطرةِ الانحيازِ وحِكمةِ الحياد؟
مبدأُ الحيادِ لجأَت إليه الشعوبُ بسببِ هزيمةٍ عسكريّةٍ كالنَمسا، أو بسببِ حروبٍ داخليّةٍ كسويسرا، أو بسببِ جِوارِ دولةٍ كبرى تَوسُّعيّةٍ كفِنلندا، وغالباً للأسبابِ الثلاثةِ معاً. بفضلِ حِيادٍ مُتفاوِتِ المستويات، تَفادَت هذه الدولُ الثلاث شَبحَ التقسيمِ أو الضّمِّ إلى دولٍ أخرى. كلُّ هذه الحالاتِ، لاسيّما خطر التقسيمِ، قائمةٌ في لبنان وتَحُثُّنا على التفكيرِ في ما إذا كان الحيادُ مناسِباً للبنان.
تشخيصُ المعضِلة
كلبنانيين، قد نَختلِف على قضايا عديدةٍ، لكنّنا نتّفِق عموماً على أنَّ أزَماتِنا وحروبَنا نَشبَت نتيجةَ خِلافاتِنا الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، ووجودِنا في جِوارِ دولٍ أو أنظمةٍ طامِعةٍ بأرضِنا، وانحيازِنا ـ عقائديّاً ونِضاليّاً وعسكريّاً ـ إلى صراعاتِ المحيطَين العربيِّ والإسلاميِّ وحتى الدوَليِّ. والمُصيبةُ الأعظم، أنَّ هذه العناصرَ الثلاثة حالَت أيضاً دونَ اتفاقِنا على قواعدَ متينةٍ لِحَلٍّ دائمٍ للأزَماتِ والحروب، فاكتفَينا، على مَضَضٍ، بتسوياتٍ سطحيّةٍ، اعتباطيةٍ ومؤَقّتةٍ، من حناياها فاحَت روائحُ الغَلَبةِ والغُبنِ، وفي طيّاتِها حَمَلت بُذورَ فِتنٍ لاحِقة.
إذا كان هذا المَحْضَرُ صحيحاً، هناك حقيقةٌ ملازِمَةٌ له هي أنَّ نوعيّةَ وَطنيّتِنا لم تُساعِدْنا على تَخَطّي انقسامِنا الطائفيِّ وانحيازِنا للخارج وعلى مَنعِ الآخرين من التَدخُّلِ في شؤونِنا. عدم التَصَدّي لهذا الواقعِ اللبنانيِّ يُعَرِّضُ لبنانَ لثلاثةِ احتمالاتٍ أحلاها مُرٌّ: استمرارُ الفتنِ عَبْرَ الأجيال، تقسيمٌ واقعيٌّ أو شرعيٌّ، وسيطرةُ فريقٍ بالقوّةِ على باقي الأفرِقاء.
لا تلكَ الخلافاتُ ولا هذه الاحتمالاتُ قدَرُ لبنان. وإن كانت كذلك، فالتقدُّمُ الحضاريُّ والعِلميُّ وَفَّرَ وسائلَ السيطرةِ على القدَرِيَّةِ لصالح الإراديّة. الشعوبُ العظيمةُ لا تَخضعُ لقدَرِها بل تَصنعُ مصيرَها. القدَرُ ذريعةُ الشعوبِ الجَبانةِ، الضعيفةِ، المُغَفَّلةِ، الجاهلِة، والوثنيَةِ. الإرادةُ عزيمةُ الشعوبِ الشُجاعةِ، الواعيةِ، الراقيةِ، المؤمِنةِ، والمُصَمِّمةِ على إنقاذِ وجودِها من تجاربِ التاريخ، وتَثبيتِه حراً ومُوَحَّداً من خلالِ صيغٍ دستوريّةٍ حديثة.
تَلمُّسُ الحل
قد يكون وَصْفُ الحيادِ عِلاجاً مفيداً للبنان، لكنّه وَحده ليس حلاً كافياً لأن أمراضَ لبنانَ عديدةٌ وتحتاجُ عِلاجاتٍ مُرَكَّبةً لتنالَ من مُختلَفِ الجراثيمِ العابثةِ بالجسمِ اللبناني. إلا أنَّ الحيادَ يَقتُلُ بالتأكيدِ الجُرثومةَ الأساسيّةَ المفجِّرةَ (لا المُسَبِّبة) لحروبِ لبنان وهي: الانحيازُ العقائديُّ والنِضاليُّ والعسكريُّ إلى الصراعاتِ الخارجية. بيْدَ أن مشروعَ الحيادِ لا يَحظى حتى الآن بإجماعِ اللبنانيّين. لذا يَتوجَّبُ شرحُ حسناتِه وسيّئاتِه لئلا يَتَحوّلَ طرحُه مشكلةً جديدةً كما صارت حالُ العلمنةِ (عِلاجِ الطائفيّةِ) وحالُ الفِدراليّةِ (عِلاجِ التعدديّة).
قبل أن يكونَ موقِفاً سياسياً، اعتمادُ الحيادِ اللبنانيِّ هو وَقفةُ ضميرٍ تِجاه الوطن. من يُحبُّ وطنَه لا يَترُكه مريضاً وشفاؤه ممكن. إنَّ الاحتكامَ إلى الأخلاقِ، لا إلى السياسةِ، كفيلٌ بإزالةِ غالِبيّةِ تَحفّظاتِ اللبنانيّين.
الميثاقُ التضامني
لكنَّ اعتمادَ الحيادِ استناداً إلى مَنطقِ الأخلاقِ يؤَدي إلى سؤالٍ استطراديٍّ هو: أإغِفالُ مصائب الآخرين بِحُجّةِ الحيادِ هو عملٌ أخلاقيّ؟ طبعاً لا. في بدايةِ القرنِ التاسعِ عَشَرَ لَحَظَ بورتاليس Portalis 1746)/1807(، أبرزُ واضِعي القانونِ المدنيِّ الفرنسيّ، ضرورةَ أن تُستَكْمَلَ العلمنةُ بـ”أخلاقيّةٍ دينيّة” (morale religieuse) خشيةَ أن تَقضيَ على القيمِ الروحيّةِ في المجتمعِ الفرنسي. كذا الحيادُ لا يستقيمُ في لبنانَ ما لم يَتحصَّن بـ”أخلاقيّةٍ تضامنيّةٍ” تُجيزُ للدولةِ والمواطنين مناصرةَ قضايا الحقِّ والعدالةِ وحقوقِ الإنسانِ والشعوبِ في الشرقِ والعالم. وأيُّ حِيادٍ خارج هذا الميثاقِ الأخلاقيِّ حالةٌ بيلاطُسِيّةٍ وانعزاليّةٍ تَتنافى مع نُبلِ اللبنانيّين ومشاعرِهم، إذ لا سعادة تِجاه شقاءِ الآخرين.
الحيادُ اللبناني في جوهرِه هو انحيازٌ نِسبيُّ ونوعيّ، إذ يَنقُلُ التضامنَ من المستوى السياسيِّ والعسكريِّ إلى المستوى الإنسانيِّ والاجتماعيِّ. والحيادُ لا يُقيم جِداراً بين لبنان وبين محيطِه والعالم. على سبيلِ المثال: الحيادُ اللبنانيُّ لا يعني الاستقالةَ من “الجامعةِ العربية”، ومن “منظّمةِ المؤتمرِ الاسلاميّ”، ومن “مُنظَمةِ الأممِ المتّحدة”، بل يعدِّل دورَ لبنانَ ويُفعِّلُه في كلِّ هذه المؤسّساتِ وفي غيرِها، ويَجعلُه شريكاً في إيجادِ الحلولِ عِوَضَ أن يَبقى ضحيّةَ الخِلافات والصِراعات. وبَديهيٌّ هنا أنَّ اعتمادَ الحيادِ لن يَحولَ دونَ مواصلةِ التصدّي للتوطينِ الفلسطينيِّ على أرضِ لبنان.
أنواع الحياد
إن كانت أهدافُ الحيادِ ثابتةً (الاستقلال والديمقراطية والأمن والحرية)، فمفاهيمُه مُتنوِّعة. ليس الحيادُ صيغةً مُعلَّبةً تَصلُحُ لكلِّ دولةٍ في كلِّ زمانٍ ومكان. هو فكرةٌ سلميّةٌ يُكيِّفُها كلُّ شعبٍ حسْبَ مشاكلِه وأوضاعِه وحاجاتِه. هناك الحيادُ الدائمُ تِجاه كلِّ النزاعاتِ الذي اعتمَدتْه سويسرا. وهناك الحيادُ الإيجابيُّ الذي مارَستْه النمسا، فلعِبت أدواراً سياسيّةً على الصعيدين الأوروبيِّ والدوليِّ لامَسَت حدودَ الانحيازِ أحياناً. وهناك الحيادُ الظرفيُّ الذي تَتّخِذه دولةٌ حِيالَ نِزاعٍ مُحدَّدٍ على غِرارِ ما فعلت السويد في الحربين الأولى والثانية. وهناك الحيادُ المراقَبُ الذي فَرضَ على فنلندا مسايرةَ الإتحادِ السوفياتيّ، الملاصِقِ لها، طَوالَ فترةِ الحربِ الباردة.
في كلِّ الأحوالِ، الدولةُ الحياديّةُ تَمتَنعُ عن الاشتراكِ في حروبٍ خارجيّةٍ، عن توفيرِ دعمٍ ماليٍّ وسلاحٍ للقوى المتحارِبة، وعن المشاركةِ في حصارٍ اقتصاديٍّ في زمنِ السِلم. لكنْ، يَحُقُّ لها الاحتكامُ إلى السلاحِ دفاعاً عن شعبِها وأراضيها، ومواصلةُ التبادلِ التجاريِّ السلميِّ مع دولةٍ مُحاصَرةٍ، والمحافظةُ على حريّةِ صِحافتِها وتعزيزُ ديبلوماسيّتِها، إلخ.
حياد فنلندا المراقب
تُظهِرُ التجاربُ أنَّ الدولَ التي اعتَمدَت الحيادَ وضَمِنتهُ واحترمتهُ، أنقذَت وجودَها من دونِ أنْ تَفقُدَ كرامتَها، عِلماً أن مفهومَ الكرامةِ في السياسيةِ ثقافةٌ نِسبيّةٌ تُرادِفُ المصلحةَ الوطنيّةَ العليا. كان الرئيسُ الفِنلندي “جوهو كوستي بآسيكيفي” Juho Kusti Paasikivi (1956 – 1946) يُبَرِّرُ مسايرتَه الاتحادَ السوفياتيَّ بالقول: “جيدٌ أن تَرفَعَ القُبّعَةَ، فرَفْعُها لا يُكَلِّفُك شيئاً”. لكن هذا التعبيرَ الإيحائيَّ لم يَمنعْ فِنلندا من المحافظةِ على استقلالِها وسيادتِها في أحلكِ الظروفِ رُغم أنَّ حِيادَها، خِلافاً لسويسرا والنمسا، ليس مَضموناً ولا مُشَرَّعاً بمواثيقَ دوليّة. لذلك رأينا فِنلندا سنةَ 1956 تُدينُ مِن جهةٍ اجتياحَ الجيشِ السوفياتيِّ المجَرَ، وتأخذُ من جهة أخرى على المجَرِ خروجَه الأحاديَّ على “معاهدةِ الصداقةِ والتعاونِ والمساعدةِ” المُوقَّعةِ مع موسكو. حالُ سويسرا والنمسا مختلِفةٌ. حيادُهما مَنيعٌ أكثرَ من فِنلندا لأنَّه مُشرَّعٌ دستوريّاً ومُصانٌ أوروبيّاً ومُعترَفٌ به دولياً.
النموذج السويسري ودروسه
قبلَ إعلانِ حيادهِا سنةَ 1515، كانت سويسرا مسرحَ حروبٍ أهليّةٍ، ودولةً تَشتركُ في غالِبيّةِ الحروبِ الأوروبيّة. لكن، إثرَ هزيمتِها في معركةِ “مارينيان” Marignan في إيطاليا أمامَ ملكِ فرنسا، فرنسوا الأوّل، تأَكّدَ شعبُها أنَّ بلادَه ليست قوّةً أوروبيّةً كبيرةً لتَرتَكِبَ مغامراتٍ عسكريّةً أو لِتنحازَ إلى جانبِ إحدى القِوى الأوروبيّةِ المتُصارِعة. وتَيقَّنَ السويسريّون أيضاً من أنَّ انقساماتِهم الدينيّةَ واللغويّةَ والثقافيّةَ تَحُول دونَ إتّباعِ سياسةٍ خارجيّةٍ واحدةٍ وسياسةٍ دفاعيّةٍ واحدةٍ، فأعلنوا حِيادَهم خِشيةَ تَجدُّدِ الفِتن الداخليّةِ أو تقسيمِ بلادِهم ثلاثَ دولٍ (Uri, Schwytz, Unterwald)، أو التحاقِ كلِّ مجموعةٍ منهم بدولةٍ مجاوِرةٍ تَتجانَسُ معها دينيّاً أو لُغويّاً.
ظلَّ حيادُ سويسرا غيرَ مَضمونٍ أوروبيّاً حتى مؤتمرِ باريس سنة 1814، ثم ثُبِّتَ، بعد سقوطِ نابوليون، في مؤتمرِ فينيا في 20 تشرين الثاني سنة 1815 حيث اعترَفت كلٌّ من النمسا وفرنسا وإنكلترا والبرتغال وبروسيا وروسيا بحيادِ سويسرا الدائمِ وضَمِنَته، كما ضَمِنَت حدودَ الوطنِ الجديدِ وسيادتِه. لم توافق هذه الدولُ على حيادِ سويسرا لمصلحةِ سويسرا فحَسب، بل لأنّها وَجدت في حيادِها إفادةً للأمنِ الأوروبيِّ. والدليلُ، أنه منذ ذلك التاريخِ لم يَخرُق الحيادَ السويسريَّ أيُّ غازٍ حتى في الحربَين العالميّتين الأولى (1914) والثانية (1939).
مع تعزيزِ الحيادِ السويسريِّ والتأكّدِ من مناعتِه أمامَ التحديّات، بَدأت المُنظّماتُ والجمعيّاتُ الدوليةُ تَستوطنُ أرضَ سويسرا. ولما انتَهت الحربُ الأولى اختارَ العالمُ جنيف مَقرّاً لـ”جمعيةِ الأممِ” SDN. وزادَ انفتاحُ العالمُ على سويسرا ومَنحها دوراً شِبهَ مُوازٍ لدورِ الأممِ المتّحدةِ، رُغم أنّها لم تَنضَم إلى منظمةِ الأممِ المتّحدةِ إلا سنةَ 2002، فيما لا تزال تَرفُض الالتحاقَ بالوَحدةِ الأوروبيّة.
ما مِن منظّمةٍ عالميةٍ إلا ولها تمثيلٌ رئيسيٌّ أو فرعيٌّ في سويسرا. وما من أزمةٍ أوروبيةٍ أو دوليةٍ لم تُساهم سويسرا في معالجتِها. مِن أجلِ الحربِ ضِدّ الإرهابِ، شاركت في منظّمةِ “التعاونِ من أجلِ السلام” وفي “مجلسِ التعاونِ الأوروبيِّ ــــ الأطلسي”. ومِن أجلِ احتواءِ المَلَفِ النوويِّ الإيرانيِّ اقترحت في 21 آذار 2007 أن تَحتفِظَ طهرانُ بالبُنيةِ الأساسيةِ الحاليّةِ للتخصيبِ مِن دونِ أن تَضُخَّ أيَّ غازٍ لسادِسِ فلوريد اليورانيوم المعاَلَجِ إلى أجهزةِ الطَرْد…. أتُضير التجربةُ السويسرية لبنان؟
النموذج النمساوي:
خلافاً لسويسرا التي حيّدَت نفسَها بنفسِها، تَبَنّت النمسا مبدأَ الحيادِ في 26 تشرين الأول 1955 (معاهدةُ بلفيدير Belvédère) تلافياً لبقائِها مُقَسَّمةً أربعةَ أجزاءٍ بين أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحادِ السوفياتي الّذين احتلوها، بعد هزيمة ألمانيا، من سنةِ 1945 حتى سنةِ 1955. عَوّلَت النمسا على حِيادِها (وكان شرطاً روسيًا) لاستعادةِ استقلالِها ولإنقاذِ ما بَقي من مَجدِها الغابِر، وهي سليلةُ إمبراطوريةٍ عظيمةٍ لعِبت أهمَّ أدوارٍ حتى سقوطِها سنةَ 1918.
اشترطَ الحلفاءُ والسوفيات على النمسا عدمَ الانحيازِ بين القُطبينِ الشرقيِّ والغربيِّ وعَدمَ استقبالِ قواعدَ عسكريّةٍ أجنبيةٍ على أراضيها، لكنّها حافظَت على حريّةِ الانضمامِ إلى مُؤسساتٍ دوليّةٍ كالمنظّمةِ الأوروبيّةِ للتعاونِ الاقتصادي OECE (1948)، والأممِ المُتّحِدةِ (1955)، والمجلسِ الأوروبيِّ CE (1956)، والجمعيةِ الأوروبيّةِ للتبادُلِ الحرِّ AELE التي أنشأتْها بريطانيا (1959)، ثم انضَمّت بعد سقوطِ الاتحادِ السوفياتي إلى الوَحدةِ الأوروبيّةِ UE (1995).
أدّى حيادُ النمسا إلى إحياءِ روحٍ وطنيّةٍ أزَالت الإحباطَ الذي سيطرَ على الشعبِ النمساوي إثْرَ سقوطِ إمبراطوريّتِه (حُكْمُ عائلة هابسبورع Habsbourg) وعِزّتِه الجِرمانية. عَلاوةً على ذلك، سَمحَ الحيادُ للشعبِ النمساويِّ الصغير بالشعورِ بروحٍ استقلاليّةٍ تِجاهَ ألمانيا التي كانت تَعتبرُه تابعاً لها واجتاحَت أراضيه منذ سنةِ 1938.
رُغم موقِعها في قَلبِ أوروبا الشرقيّةِ، مارست النمسا مفهومَ الحيادِ بِتَصرّفٍ أكثرَ من سويسرا: احتفَظت بوجهٍ أوروبيٍّ غربيٍّ وانتَمَت إيديولوجياً واقتصادياً إلى العالمِ الحر. حِيادُ النمسا لم يَمنَعْها من: حَلِّ نِقابةٍ عُماليّةٍ تابعةٍ للشيوعيّةِ الدوليّة، تَغييرِ أسماءِ الشوارعِ العائدةِ إلى حَقبةِ الاحتلالِ السوفياتي، التعاطفِ سنةَ 1956 مع انتفاضةِ الشعبِ المَجَريِّ واستقبالِ النازحين منه. ولدى انتهاءِ الأزمةِ المجَريّةِ سنةَ 1957 صَوّتت النمسا في الأممِ المتّحدةِ على تَوصيةٍ تُدين التدخّلَ العسكريَّ السوفياتي.
بفضلِ هذه السياسةِ، المُتَحَدِّرةِ من عنفوانٍ إمبراطوريٍّ سابِقٍ، التزَمت النمسا بما يُمكن تسميتُه بــــ”الحيادِ الناشط”. فأكّدَت أنَّ الحيادَ لا يعني تنازُلاً عن التضامنِ المباشَر مع الشعوبِ أو خُضوعاً للأمرِ الواقِع (لم تَعترف النمسا بألمانيا الشرقية). والحقيقةُ أن النمسا لم تَتّخِذ تلك المواقفَ استعداءً للاتحادِ السوفياتي وحلفائِه وانحيازاً لأوروبا الغربية، بل بهاجسِ الدفاعِ عن حقوقِ الإنسان، بدليلِ أنها بين سنتي 1958 و 1960 تَعاطَفت أيضاً مع نِضالِ الشعبِ الجزائريِّ من أجل استقلالِه غيرَ عابئةٍ بغضبِ فرنسا. ولمّا تولّى برونو كرايسكي (الاشتراكي اليهودي) المستشاريّةِ النمساويّةِ بين سنتَي 1970 و 1983، عَطَفَ على منظّمةِ التحريرِ الفِلسطينيةِّ وسَعى للتوسُّطِ بين العربِ وإسرائيل… أتُضير التجربةُ النمساويّةُ لبنان؟
عَرْضُ الحياد على لبنان
في ضوءِ النماذجِ السويسريّةِ والنمساويّةِ، وحتى الفِنلنديّةِ، الحيادُ مَنفَذٌ دُستوريٌّ إنقاذيٌّ قبلَ أن يكونَ خِياراً عقائدياً. وإذ سياسةُ الحيادِ أَثبَتَت نَجاحَها عبرَ السنين رُغم تقلّباتِ الزمنِ وتَطوّرِ الأحداث، التجاربُ العمليّةُ، لا النظريّة، أكّدَت أيضاً أنَّ الحيادَ حالةٌ انفتاحٍ تجاهَ الدولِ الأخرى. فما عدا الامتناعُ عن التورّطِ العسكريِّ، لعِبت الدولُ المحايِدةُ ــــ كما قرأنا ــــ أدواراً في خِدمةِ الإنسانِ وحّلِّ النِزاعاتِ ومصالحةِ المتصارعين أكثرَ من الدولِ المنحازةِ التي تُسَبِّبُ سياساتُها معظمَ مشاكلِ العالمِ ومآسيه (سياساتُ الاتحاد السوفياتي السابق). وفي أيّامِنا هذه، غالباً ما يكونُ التضامنُ السياسيُّ والديبلوماسيُّ والاقتصاديُّ والإعلاميُّ مُفيداً (دورُ لبنانَ السابقِ في خِدمةِ القضيةِ الفِلسطينية) أكثرَ من التَدخّلِ العسكريِّ (حربُ حزب الله وإسرائيل).
وخلافاً لما يَتَوهّمُ البعضُ، الدولةُ الحياديّةُ ليست بالضرورةِ ضعيفةً أو مُسْتضعَفة. فما الحِيادُ شرطٌ حتميٌّ تَفرُضه دولةٌ منتَصِرةٌ على أخرى، ولا هو مُرادِفٌ للاستسلام. إنه حالةُ انتصارٍ سلبيٍّ (passif) دائم. لو لم يَكُن الحيادُ مناسِباً لسويسرا والنمسا لتَخَلّتا عنه، فلا نابوليون الآنَ يُهدّدُ الأولى، ولا هتلر وستالين يَحتلان الثانية. الحيادُ خَيارٌ حرٌّ تَقبَلُه أو تَرفُضه أيُّ دولةٍ أكانت منتصرةً أم منهزِمةً. وأساسًا، لا حيادَ بدونِ سيادةٍ واستقلالٍ وأمنٍ وحرية. وحين تَمتنعُ دولةٌ محايِدةٌ عن القيامِ بأمرٍ ما، فلأنَّ لا مصلحةَ لها فيه وليس لفُقدانِها القرارَ الحرّ. مَن لا يُلقي بنفسِه في النارِ ليس بالضرورةِ إنساناً مُقيَّداً بل هو إنسانٌّ حرٌّ لا يريدُ أن يَحترق. دستورُ الدولةِ المحايِدة يَردَعُ الغرائزَ الداخليّةَ والأطماعَ الخارجيّة، فيَسمَحُ للدولةِ أن تشاركَ في حلِّ مشاكلِ الآخرين من دونِ أن يَتدخّلَ الآخرون في شؤونِها ويَخلقون لها مشاكلَ عَصِيّةَ الحل.
ما أحوجَ لبنانُ إلى مِثلِ هذه الضوابطِ ليستعيدَ استقلالَه الحقيقيَّ ووَحدتَه وقوّتَه. إن جوهرَ نشوءِ دولةِ لبنانَ في الشَرقِ هو مشروعُ دولةٍ حياديّةٍ بفعلِ مُميّزاتِه الخاصة التي تُشكل قوّته وضعفَه في آن معاً. ولو لم تكن الخَلفيّةُ الحياديةُ موجودةً لدى مؤسّسي هذه الدولةِ لما كانوا أصرّوا على كِيانٍ لبنانيٍّ مستقل. فالكِيانُ اللبنانيُّ سنةَ 1920 هو حالةٌ استقلاليّةٌ قبلَ الاستقلالِ لأنَّ نشؤَه يَعني صراحةً استقلالاً عن الدولةِ العربيّةِ الإسلاميّة. وحين يَكونُ لبنانُ مُستقِلاً عن هذه الدولةِ (المجازيّةِ حتى الآن) يُصبحُ عَملياً دولةً حياديّةً إذ لن يكونَ، ولا يَجب أن يكونَ بالمقابِل مُنحازاً ضدَّ محيطِه العربيّ. وما دامَ لبنانُ الكيانُ حالةً حياديّةً قبلَ نيلِه استقلالِه، فكيف الحالُ بعد نَيْلِه إيّاه؟ إن مطالبةَ اللبنانيّين بإنهاءِ الانتدابِ الفرنسيِّ جاءت للحصولِ على الاستقلالِ من جِهةٍ، ولوضعِ حدٍّ لانحيازِ لبنانَ الجَبّريِّ لفرنسا، أي لتثبيتِ الحيادِ اللبنانيِّ من جهةٍ أخرى. لبنان موجودٌ إذن هو مستقلٌ، ولبنان مستقلٌ إذن هو حيادي.
ويَسري هذا الاستنتاجُ الجدليُّ على مختلِفِ حقباتِ لبنانَ التاريخيةِ حيثُ ظَهَرَ أنَّ لا تطبيقَ حقيقياً لاستقلالِ لبنان ولا تجليَ حَضارياً لتعدّديتِه بدونِ حياده. في قرن العشرين، جَسّدت صيغةُ “لا شرقَ ولا غربَ” التي وردت في خِطابِ الحكومةِ الاستقلاليّةِ الأولى برئاسةِ الشهيدِ الأولِّ رياض الصلح رمزاً حياديًّا بين الوحدةِ العربيّةِ والاستعمارِ الغربي. وكَرّست صيغةُ “معِ العربِ إذا اتفقوا وعلى الحيادِ إذا اختلفوا” التي أرادَها لبنان مبدأَ سياستِه داخلَ الجامعةِ العربيةِ رمزَ حيادِ لبنان في صِراعاتِ الدولِ العربيّة. وعَنَى الشعارُ اللبناني “لا غالبَ ولا مغلوبَ” في عُمقِه تَحييدَ التسوياتِ بعد كلِّ أزمة، لكنه لم يُطبَّق بعد لا داخلياً ولا خارجياً. وثَـبّتَ احترامُ لبنانَ اتفاقيّةَ الهُدنةِ مع إسرائيل التزامَه الحيادَ العسكريِّ فقط في الصراعِ العربيّ ـــ الإسرائيلي. وبِفضل هذا الموقِفِ، نَجح لبنانُ عموماً في الحفاظِ على سلامةِ أراضيه رُغم كلِّ الحروبِ العربيّة ــــ الإسرائيلية. لكن هذه السياسةَ سقطت مع “اتفاقِ القاهِرةِ” سنةَ 1969 وكلِّ ما تّبِعَه، وصولاً إلى حربِ 12 تموز 2006. أما تاريخُ لبنان فمَليءٌ بمحاولاتِ اللبنانيّين تحييدَ أنفسِهم في ظروفٍ معينةٍ حفاظاً على أمنِهم وحرياتِهم. وعلى سبيلِ المِثالِ نَذكر التزامَ الأميرِ بشير الثاني الشهابي الحِيادَ بين بونابرت وأحمد الجزار لدى بلوغ الأول أسوار عكا سنة 1799.
الظرف الملائم
استناداً إلى كلِّ ما تَقَدّم، يبدو الحيادُ صيغةً مُفصَّلةً على قِياس دولةٍ كلبنان. فالحيادُ يَسمح للبنانيّين، الغيارى على الآخرين، أنْ يُوَفِّقوا بين العقلِ والقلب، بين المصلحةِ الوطنيّةِ والأهواءِ الفئوية، بين الأمنِ والحرية، بين المشاركةِ والتورّط، بين الانحيازِ والتضامن. وإذا كان بعضُنا، يَعتبرُ الصراعَ العربي ـــ الإسرائيلي عقبةً أمامَ اعتمادِ الحياد، فالدول العربيّةُ، بما فيها سوريا، المحتلُّ جولانُها، تُمارِسُ منذ ثلاثين سنةٍ تقريباً سياسةَ الحيادِ العسكري الواقعيِّ تِجاه هذا الصراع. وذهبَ بعضُ هذه الدولِ حتى الانحيازِ نحو إسرائيل لا الحيادِ فقط. إن الجهدَ العربي اليومَ منصبٌّ على التوصّلُ إلى اتفاقٍ سلميٍّ مع إسرائيل، وها هي قراراتُ قِمةِ السعوديةِ في 29 آذار 2007 تؤكده (“السلامُ هو الخيار الوحيد”). وفي الخمسيناتِ كادَ الحيادُ أن يكونَ الخيارَ الأفضل لمصر. يومَها اقترحَ مندوبُ مِصر لدى الأممِ المتّحدةِ، الدكتور محمود عزمي، على جمال عبد الناصر، بعدَ تأميمِ قناةِ السويس، إعلانَ حِيادِ مِصر تحاشياً لتعرُّضِها للعُدوانِ الثلاثي (إسرائيل، بريطانيا وفرنسا)، لكنَّ عبد الناصر، الحالمَ بالوَحدةِ العربيّةِ، رفضَ الفكرةَ فانتقلت مصرُ من هزيمةٍ إلى أخرى حتى “تَحيّدت” عسكرياً في اتفاقِ “كمب دايفيد” في 17 أيلول سنةَ 1978.
إن الظروفَ الداخليةَ والإقليميةَ والدوليةَ مؤاتيةٌ لإعلانِ حيادِ لبنان، وإلا لما كان رجلان مُحترَمان ومطَّلِعان كالأستاذ غسان تويني (النهار في 12 آذار 2007) وسُموِّ الأمير طلال بن عبد العزيز (النهار في 23 آذار 2007) يُطالِبان به. ورئيسُ مجلسِ النواب اللبناني الأستاذ نبيه بِرّي أعلن تأييدَه “حياد لبنان الإيجابي” (محطة تلفزيون NBN في 04 نيسان 2007). أما تحفظاتُ البعضِ داخلياً وإقليمياً، فالتطوراتُ الآتيةُ في الشرقِ الأوسط الواسعِ تُزيل جزءاً منها، والإجماعُ الدوليُّ عَبْرَ مؤتمرٍ أُمَميٍّ، يُزيلُ الجزءَ الباقي. إن السيرَ في تحييدِ لبنان هو استكمالٌ طبيعيٌّ للاعترافِ به وطناً نِهائياً وتعويماً له كوطنِ الرسالة. وما عدا معاندةٌ ملتبسةٌ، من نوعِ تفضيلِ تعديلِ الوطن على تعديلِ السياسة، لا شيءَ يَمنعُ لبنانَ مِن إن يُنقِذَ نفسَه كما أنقذَت نفسَها شعوبٌ عانَت في تاريخِها ما يُعانيه لبنان…
في 20 تشرين الثاني سنة 1815 حيث اعترَفت كلٌّ من النمسا وفرنسا وإنكلترا والبرتغال وبروسيا وروسيا بحيادِ سويسرا الدائمِ وضَمِنَته، كما ضَمِنَت حدودَ الوطنِ الجديدِ وسيادتِه. لم توافق هذه الدولُ على حيادِ سويسرا لمصلحةِ سويسرا فحَسب، بل لأنّها وَجدت في حيادِها إفادةً للأمنِ الأوروبيِّ. والدليلُ، أنه منذ ذلك التاريخِ لم يَخرُق الحيادَ السويسريَّ أيُّ غازٍ حتى في الحربَين العالميّتين الأولى (1914) والثانية (1939).
مع تعزيزِ الحيادِ السويسريِّ والتأكّدِ من مناعتِه أمامَ التحديّات، بَدأت المُنظّماتُ والجمعيّاتُ الدوليةُ تَستوطنُ أرضَ سويسرا. ولما انتَهت الحربُ الأولى اختارَ العالمُ جنيف مَقرّاً لـ”جمعيةِ الأممِ” SDN. وزادَ انفتاحُ العالمُ على سويسرا ومَنحها دوراً شِبهَ مُوازٍ لدورِ الأممِ المتّحدةِ، رُغم أنّها لم تَنضَم إلى منظمةِ الأممِ المتّحدةِ إلا سنةَ 2002، فيما لا تزال تَرفُض الالتحاقَ بالوَحدةِ الأوروبيّة.
ما مِن منظّمةٍ عالميةٍ إلا ولها تمثيلٌ رئيسيٌّ أو فرعيٌّ في سويسرا. وما من أزمةٍ أوروبيةٍ أو دوليةٍ لم تُساهم سويسرا في معالجتِها. مِن أجلِ الحربِ ضِدّ الإرهابِ، شاركت في منظّمةِ “التعاونِ من أجلِ السلام” وفي “مجلسِ التعاونِ الأوروبيِّ ــــ الأطلسي”. ومِن أجلِ احتواءِ المَلَفِ النوويِّ الإيرانيِّ اقترحت في 21 آذار 2007 أن تَحتفِظَ طهرانُ بالبُنيةِ الأساسيةِ الحاليّةِ للتخصيبِ مِن دونِ أن تَضُخَّ أيَّ غازٍ لسادِسِ فلوريد اليورانيوم المعاَلَجِ إلى أجهزةِ الطَرْد…. أتُضير التجربةُ السويسرية لبنان؟
النموذج النمساوي:
خلافاً لسويسرا التي حيّدَت نفسَها بنفسِها، تَبَنّت النمسا مبدأَ الحيادِ في 26 تشرين الأول 1955 (معاهدةُ بلفيدير Belvédère) تلافياً لبقائِها مُقَسَّمةً أربعةَ أجزاءٍ بين أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحادِ السوفياتي الّذين احتلوها، بعد هزيمة ألمانيا، من سنةِ 1945 حتى سنةِ 1955. عَوّلَت النمسا على حِيادِها (وكان شرطاً روسيًا) لاستعادةِ استقلالِها ولإنقاذِ ما بَقي من مَجدِها الغابِر، وهي سليلةُ إمبراطوريةٍ عظيمةٍ لعِبت أهمَّ أدوارٍ حتى سقوطِها سنةَ 1918.
اشترطَ الحلفاءُ والسوفيات على النمسا عدمَ الانحيازِ بين القُطبينِ الشرقيِّ والغربيِّ وعَدمَ استقبالِ قواعدَ عسكريّةٍ أجنبيةٍ على أراضيها، لكنّها حافظَت على حريّةِ الانضمامِ إلى مُؤسساتٍ دوليّةٍ كالمنظّمةِ الأوروبيّةِ للتعاونِ الاقتصادي OECE (1948)، والأممِ المُتّحِدةِ (1955)، والمجلسِ الأوروبيِّ CE (1956)، والجمعيةِ الأوروبيّةِ للتبادُلِ الحرِّ AELE التي أنشأتْها بريطانيا (1959)، ثم انضَمّت بعد سقوطِ الاتحادِ السوفياتي إلى الوَحدةِ الأوروبيّةِ UE (1995).
أدّى حيادُ النمسا إلى إحياءِ روحٍ وطنيّةٍ أزَالت الإحباطَ الذي سيطرَ على الشعبِ النمساوي إثْرَ سقوطِ إمبراطوريّتِه (حُكْمُ عائلة هابسبورع Habsbourg) وعِزّتِه الجِرمانية. عَلاوةً على ذلك، سَمحَ الحيادُ للشعبِ النمساويِّ الصغير بالشعورِ بروحٍ استقلاليّةٍ تِجاهَ ألمانيا التي كانت تَعتبرُه تابعاً لها واجتاحَت أراضيه منذ سنةِ 1938.
رُغم موقِعها في قَلبِ أوروبا الشرقيّةِ، مارست النمسا مفهومَ الحيادِ بِتَصرّفٍ أكثرَ من سويسرا: احتفَظت بوجهٍ أوروبيٍّ غربيٍّ وانتَمَت إيديولوجياً واقتصادياً إلى العالمِ الحر. حِيادُ النمسا لم يَمنَعْها من: حَلِّ نِقابةٍ عُماليّةٍ تابعةٍ للشيوعيّةِ الدوليّة، تَغييرِ أسماءِ الشوارعِ العائدةِ إلى حَقبةِ الاحتلالِ السوفياتي، التعاطفِ سنةَ 1956 مع انتفاضةِ الشعبِ المَجَريِّ واستقبالِ النازحين منه. ولدى انتهاءِ الأزمةِ المجَريّةِ سنةَ 1957 صَوّتت النمسا في الأممِ المتّحدةِ على تَوصيةٍ تُدين التدخّلَ العسكريَّ السوفياتي.
بفضلِ هذه السياسةِ، المُتَحَدِّرةِ من عنفوانٍ إمبراطوريٍّ سابِقٍ، التزَمت النمسا بما يُمكن تسميتُه بــــ”الحيادِ الناشط”. فأكّدَت أنَّ الحيادَ لا يعني تنازُلاً عن التضامنِ المباشَر مع الشعوبِ أو خُضوعاً للأمرِ الواقِع (لم تَعترف النمسا بألمانيا الشرقية). والحقيقةُ أن النمسا لم تَتّخِذ تلك المواقفَ استعداءً للاتحادِ السوفياتي وحلفائِه وانحيازاً لأوروبا الغربية، بل بهاجسِ الدفاعِ عن حقوقِ الإنسان، بدليلِ أنها بين سنتي 1958 و 1960 تَعاطَفت أيضاً مع نِضالِ الشعبِ الجزائريِّ من أجل استقلالِه غيرَ عابئةٍ بغضبِ فرنسا. ولمّا تولّى برونو كرايسكي (الاشتراكي اليهودي) المستشاريّةِ النمساويّةِ بين سنتَي 1970 و 1983، عَطَفَ على منظّمةِ التحريرِ الفِلسطينيةِّ وسَعى للتوسُّطِ بين العربِ وإسرائيل… أتُضير التجربةُ النمساويّةُ لبنان؟
عَرْضُ الحياد على لبنان
في ضوءِ النماذجِ السويسريّةِ والنمساويّةِ، وحتى الفِنلنديّةِ، الحيادُ مَنفَذٌ دُستوريٌّ إنقاذيٌّ قبلَ أن يكونَ خِياراً عقائدياً. وإذ سياسةُ الحيادِ أَثبَتَت نَجاحَها عبرَ السنين رُغم تقلّباتِ الزمنِ وتَطوّرِ الأحداث، التجاربُ العمليّةُ، لا النظريّة، أكّدَت أيضاً أنَّ الحيادَ حالةٌ انفتاحٍ تجاهَ الدولِ الأخرى. فما عدا الامتناعُ عن التورّطِ العسكريِّ، لعِبت الدولُ المحايِدةُ ــــ كما قرأنا ــــ أدواراً في خِدمةِ الإنسانِ وحّلِّ النِزاعاتِ ومصالحةِ المتصارعين أكثرَ من الدولِ المنحازةِ التي تُسَبِّبُ سياساتُها معظمَ مشاكلِ العالمِ ومآسيه (سياساتُ الاتحاد السوفياتي السابق). وفي أيّامِنا هذه، غالباً ما يكونُ التضامنُ السياسيُّ والديبلوماسيُّ والاقتصاديُّ والإعلاميُّ مُفيداً (دورُ لبنانَ السابقِ في خِدمةِ القضيةِ الفِلسطينية) أكثرَ من التَدخّلِ العسكريِّ (حربُ حزب الله وإسرائيل).
وخلافاً لما يَتَوهّمُ البعضُ، الدولةُ الحياديّةُ ليست بالضرورةِ ضعيفةً أو مُسْتضعَفة. فما الحِيادُ شرطٌ حتميٌّ تَفرُضه دولةٌ منتَصِرةٌ على أخرى، ولا هو مُرادِفٌ للاستسلام. إنه حالةُ انتصارٍ سلبيٍّ (passif) دائم. لو لم يَكُن الحيادُ مناسِباً لسويسرا والنمسا لتَخَلّتا عنه، فلا نابوليون الآنَ يُهدّدُ الأولى، ولا هتلر وستالين يَحتلان الثانية. الحيادُ خَيارٌ حرٌّ تَقبَلُه أو تَرفُضه أيُّ دولةٍ أكانت منتصرةً أم منهزِمةً. وأساسًا، لا حيادَ بدونِ سيادةٍ واستقلالٍ وأمنٍ وحرية. وحين تَمتنعُ دولةٌ محايِدةٌ عن القيامِ بأمرٍ ما، فلأنَّ لا مصلحةَ لها فيه وليس لفُقدانِها القرارَ الحرّ. مَن لا يُلقي بنفسِه في النارِ ليس بالضرورةِ إنساناً مُقيَّداً بل هو إنسانٌّ حرٌّ لا يريدُ أن يَحترق. دستورُ الدولةِ المحايِدة يَردَعُ الغرائزَ الداخليّةَ والأطماعَ الخارجيّة، فيَسمَحُ للدولةِ أن تشاركَ في حلِّ مشاكلِ الآخرين من دونِ أن يَتدخّلَ الآخرون في شؤونِها ويَخلقون لها مشاكلَ عَصِيّةَ الحل.
ما أحوجَ لبنانُ إلى مِثلِ هذه الضوابطِ ليستعيدَ استقلالَه الحقيقيَّ ووَحدتَه وقوّتَه. إن جوهرَ نشوءِ دولةِ لبنانَ في الشَرقِ هو مشروعُ دولةٍ حياديّةٍ بفعلِ مُميّزاتِه الخاصة التي تُشكل قوّته وضعفَه في آن معاً. ولو لم تكن الخَلفيّةُ الحياديةُ موجودةً لدى مؤسّسي هذه الدولةِ لما كانوا أصرّوا على كِيانٍ لبنانيٍّ مستقل. فالكِيانُ اللبنانيُّ سنةَ 1920 هو حالةٌ استقلاليّةٌ قبلَ الاستقلالِ لأنَّ نشؤَه يَعني صراحةً استقلالاً عن الدولةِ العربيّةِ الإسلاميّة. وحين يَكونُ لبنانُ مُستقِلاً عن هذه الدولةِ (المجازيّةِ حتى الآن) يُصبحُ عَملياً دولةً حياديّةً إذ لن يكونَ، ولا يَجب أن يكونَ بالمقابِل مُنحازاً ضدَّ محيطِه العربيّ. وما دامَ لبنانُ الكيانُ حالةً حياديّةً قبلَ نيلِه استقلالِه، فكيف الحالُ بعد نَيْلِه إيّاه؟ إن مطالبةَ اللبنانيّين بإنهاءِ الانتدابِ الفرنسيِّ جاءت للحصولِ على الاستقلالِ من جِهةٍ، ولوضعِ حدٍّ لانحيازِ لبنانَ الجَبّريِّ لفرنسا، أي لتثبيتِ الحيادِ اللبنانيِّ من جهةٍ أخرى. لبنان موجودٌ إذن هو مستقلٌ، ولبنان مستقلٌ إذن هو حيادي.
ويَسري هذا الاستنتاجُ الجدليُّ على مختلِفِ حقباتِ لبنانَ التاريخيةِ حيثُ ظَهَرَ أنَّ لا تطبيقَ حقيقياً لاستقلالِ لبنان ولا تجليَ حَضارياً لتعدّديتِه بدونِ حياده. في قرن العشرين، جَسّدت صيغةُ “لا شرقَ ولا غربَ” التي وردت في خِطابِ الحكومةِ الاستقلاليّةِ الأولى برئاسةِ الشهيدِ الأولِّ رياض الصلح رمزاً حياديًّا بين الوحدةِ العربيّةِ والاستعمارِ الغربي. وكَرّست صيغةُ “معِ العربِ إذا اتفقوا وعلى الحيادِ إذا اختلفوا” التي أرادَها لبنان مبدأَ سياستِه داخلَ الجامعةِ العربيةِ رمزَ حيادِ لبنان في صِراعاتِ الدولِ العربيّة. وعَنَى الشعارُ اللبناني “لا غالبَ ولا مغلوبَ” في عُمقِه تَحييدَ التسوياتِ بعد كلِّ أزمة، لكنه لم يُطبَّق بعد لا داخلياً ولا خارجياً. وثَـبّتَ احترامُ لبنانَ اتفاقيّةَ الهُدنةِ مع إسرائيل التزامَه الحيادَ العسكريِّ فقط في الصراعِ العربيّ ـــ الإسرائيلي. وبِفضل هذا الموقِفِ، نَجح لبنانُ عموماً في الحفاظِ على سلامةِ أراضيه رُغم كلِّ الحروبِ العربيّة ــــ الإسرائيلية. لكن هذه السياسةَ سقطت مع “اتفاقِ القاهِرةِ” سنةَ 1969 وكلِّ ما تّبِعَه، وصولاً إلى حربِ 12 تموز 2006. أما تاريخُ لبنان فمَليءٌ بمحاولاتِ اللبنانيّين تحييدَ أنفسِهم في ظروفٍ معينةٍ حفاظاً على أمنِهم وحرياتِهم. وعلى سبيلِ المِثالِ نَذكر التزامَ الأميرِ بشير الثاني الشهابي الحِيادَ بين بونابرت وأحمد الجزار لدى بلوغ الأول أسوار عكا سنة 1799.
الظرف الملائم
استناداً إلى كلِّ ما تَقَدّم، يبدو الحيادُ صيغةً مُفصَّلةً على قِياس دولةٍ كلبنان. فالحيادُ يَسمح للبنانيّين، الغيارى على الآخرين، أنْ يُوَفِّقوا بين العقلِ والقلب، بين المصلحةِ الوطنيّةِ والأهواءِ الفئوية، بين الأمنِ والحرية، بين المشاركةِ والتورّط، بين الانحيازِ والتضامن. وإذا كان بعضُنا، يَعتبرُ الصراعَ العربي ـــ الإسرائيلي عقبةً أمامَ اعتمادِ الحياد، فالدول العربيّةُ، بما فيها سوريا، المحتلُّ جولانُها، تُمارِسُ منذ ثلاثين سنةٍ تقريباً سياسةَ الحيادِ العسكري الواقعيِّ تِجاه هذا الصراع. وذهبَ بعضُ هذه الدولِ حتى الانحيازِ نحو إسرائيل لا الحيادِ فقط. إن الجهدَ العربي اليومَ منصبٌّ على التوصّلُ إلى اتفاقٍ سلميٍّ مع إسرائيل، وها هي قراراتُ قِمةِ السعوديةِ في 29 آذار 2007 تؤكده (“السلامُ هو الخيار الوحيد”). وفي الخمسيناتِ كادَ الحيادُ أن يكونَ الخيارَ الأفضل لمصر. يومَها اقترحَ مندوبُ مِصر لدى الأممِ المتّحدةِ، الدكتور محمود عزمي، على جمال عبد الناصر، بعدَ تأميمِ قناةِ السويس، إعلانَ حِيادِ مِصر تحاشياً لتعرُّضِها للعُدوانِ الثلاثي (إسرائيل، بريطانيا وفرنسا)، لكنَّ عبد الناصر، الحالمَ بالوَحدةِ العربيّةِ، رفضَ الفكرةَ فانتقلت مصرُ من هزيمةٍ إلى أخرى حتى “تَحيّدت” عسكرياً في اتفاقِ “كمب دايفيد” في 17 أيلول سنةَ 1978.
إن الظروفَ الداخليةَ والإقليميةَ والدوليةَ مؤاتيةٌ لإعلانِ حيادِ لبنان، وإلا لما كان رجلان مُحترَمان ومطَّلِعان كالأستاذ غسان تويني (النهار في 12 آذار 2007) وسُموِّ الأمير طلال بن عبد العزيز (النهار في 23 آذار 2007) يُطالِبان به. ورئيسُ مجلسِ النواب اللبناني الأستاذ نبيه بِرّي أعلن تأييدَه “حياد لبنان الإيجابي” (محطة تلفزيون NBN في 04 نيسان 2007). أما تحفظاتُ البعضِ داخلياً وإقليمياً، فالتطوراتُ الآتيةُ في الشرقِ الأوسط الواسعِ تُزيل جزءاً منها، والإجماعُ الدوليُّ عَبْرَ مؤتمرٍ أُمَميٍّ، يُزيلُ الجزءَ الباقي. إن السيرَ في تحييدِ لبنان هو استكمالٌ طبيعيٌّ للاعترافِ به وطناً نِهائياً وتعويماً له كوطنِ الرسالة. وما عدا معاندةٌ ملتبسةٌ، من نوعِ تفضيلِ تعديلِ الوطن على تعديلِ السياسة، لا شيءَ يَمنعُ لبنانَ مِن إن يُنقِذَ نفسَه كما أنقذَت نفسَها شعوبٌ عانَت في تاريخِها ما يُعانيه لبنان…
الوزير السابق سجعان قزي