الدكتور عصام خليفة، النهار، صفحة “قضايا” ، ٢٥ تموز ٢٠٢٠
من المسلم به عند أغلب الباحثين في القانون الدولي، ان الحياد لدولة ما هو عمل اختياري ارادي للشعب صاحب العلاقة. وقد يكون هذا الحياد ظرفياً أو دائماً. وينبع هذا المفهوم من وجود هذه الدولة أو تلك أمام واقع نزاع خطير بين دول أو دولتين قد تكون عزيزة أو قد تشكل خوفاً على مصالح الدولة التي تطرح الحياد. هكذا كان حال الدنمارك (عام 1870) وسويسرا والنمسا وايسلندا والسويد. وثمة عدة أنواع من الحياد: الكامل، والواقعي، والمسلح الذي يضمن حدود الدولة وحقوقها. وهناك مفهوم الحياد الإيجابي الذي طرح مع حركة عدم الانحياز في مواجهة الحرب الباردة بين اميركا والاتحاد السوفياتي. وفي بيانات الحكومات اللبنانية في الفترة الأخيرة استعمل مصطلح “النأي بالنفس” ليدل على وقوف الدولة اللبنانية بعيداً عن النزاعات الإقليمية المحيطة. وهذا بالطبع لا يعني النأي أو الحياد تجاه القضية الفلسطينية. فلبنان بحكم انتمائه للجامعة العربية فهو ملتزم بحقوق الشعب الفلسطيني.
في الأول من كانون الأول عام 1918 وجه قادة القضية اللبنانية من القاهرة – وقد كانوا من مثقفي حزب الاتحاد اللبناني – نداء الى الشعب اللبناني(1). ومن أبرز ما جاء في هذا النداء البليغ المطالبة بعدم الانقسام بين الطوائف والمذاهب ولا بين الأقاليم والأحزاب، والحرص على الوحدة الوطنية واليد الواحدة في العمل. واولوية شعار المساواة في الحقوق والمساواة في الواجبات. كما أكد النداء على لبنان دولة مستقلة يجب ان تكون بضمانة الدول الكبرى “بما يجعلها سويسرة الشرق”.
وفي نفس السياق ورد في قرار مجلس الإدارة (10 تموز 1920) اعلان استقلال لبنان التام المطلق الحيثية التالية: “… مما يستلزم استقلاله وحياده السياسي ايضاً لوقايته من المطامع والطوارئ”.
والبند الأول من القرار الذي اكد على “استقلال لبنان التام المطلق” تلاه البند الثاني الذي ربطه “بحياد السياسي بحيث لا يحارب ولا يحارَب، ويكون بمعزل عن كل تدخل حربي”(2).
في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي اجتمع فريق من المثقفين، من كل الطوائف، في منزل يوسف السودا. وشعوراً منهم بان حالة لبنان تنذر بالخطر وان ذلك يحتم توحيد الجهود بين الوطنيين المخلصين بمعزل عن التخربات والنعرات. والمتعمق في مناقشات هذه النخبة يلاحظ الحرص على استقلال الدولة اللبنانية عن كل تبعية او ارتهان خارجي. وان هناك فهم عميق للّبننة وتكاملها مع العروبة بما هما مشروع حرية واحترام لحقوق الانسان.
على قاعدة الميثاق الوطني المكتوب في منزل يوسف السودا بتاريخ 18 آذار 1938، والذي كان حصيلة مناقشات معمقة بين نخبة من كل الطوائف، انطلق ما سمي لاحقاً ميثاق 1943، والذي أورده الشيخ بشارة الخوري في مذكراته:
1- ليس لبنان وطناً للمسيحيين وحدهم ولا للمسلمين وحدهم، انه وطن العيش المشترك للطرفين اللذين يمثلان جناحي الوطن، على قدم المساواة، مع ما يعني ذلك من مشاركة في الحكم والقرار.
2- يتخلى المسيحيون عن اية مطالب بحماية اجنبية، ويرتضي المسلمون بالكيان اللبناني، بحدوده الحاضرة كياناً سيداً مستقلاً دائماً، تنبع سياسات دولته وقراراتها من مصالح شعبه العليا.
3- ينتمي لبنان الى الاسرة العربية، وسيكون عضواً مؤسساً في جامعة الدول العربية، ولن يكون للاستعمار ممراً او مقراً ضد اشقائه العرب. وهو اذ يتضامن مع الصالح العربي تضامناً كاملاً ينأى عن الدخول في سياسات المحاور التي يمكن ان تتجاذب الأقطار العربية فيما بينها.
هذا يعني ان من أسس الدولة – كما اتفق عليها المؤسسون – اعتبر ان المصلحة العليا للشعب اللبناني تكمن في الحياد بين المحاور التي تتجاذب الأقطار العربية. من هنا المبدأ الذي وجه السياسة الخارجية اللبنانية: اذا اتفق العرب نحن معهم واذا اختلفوا فنحن على الحياد.
في فترة الخمسينات، وفي مواجهة الاصطفاف الذي قسم العالم العربي بين تيارين: حلف بغداد من جهة ومصر وسوريا من جهة أخرى، طرح الرئيس كميل شمعون مشروع حياد لبنان على غرار الحياد السويسري او النمساوي، بضمانة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد اقترح اتخاذ لبنان قاعدة مؤقتة للبوليس الدولي واضعاً المرافئ والمطارات اللبنانية بتصرفه. وقد بادر البطريرك الماروني المعوشي باقتراح الحياد حماية لاستقلال لبنان. كما بادر الرئيس فؤاد شهاب الى تأييد مبدأ الحياد انطلاقاً من نفس الهواجس. تحفظ الفرنسيون على طرح الرئيس شمعون، وتمسك كل من شمعون وبيار الجميّل وشارل مالك وهنري فرعون بالحياد.
الرئيس فؤاد شهاب، بعد فتنة 1958، أكد عند توليه الحكم ضرورة التمسك “بالدستور غير المكتوب” وعام 1960 طالب اللبنانيين ان يتمسكوا بميثاقهم الوطني شرعة الكيان غير المكتوبة ويحترموه كما دستور البلاد ونظام الحكم المنبثق عنه.
وفي هذه الفترة رأى العميد ريمون اده ان مصلحة الدول العربية تكمن ان يبقى لبنان سويسرا الشرق. كما انه عام 1964 طالب بقوات طوارئ دولية تتمركز داخل الأراضي اللبنانية على طول الحدود مع إسرائيل كما ان بعض الشخصيات والأحزاب ومنها حزب الكتائب اللبنانية طرحوا مشروع حياد لبنان.
في المرحلة اللاحقة بعد العام 1975 دخلت الدولة اللبنانية في دوامة العنف والتدخلات الإقليمية والدولية.
قبيل هذه الاثناء طرح النائب منوال يونس الحياد في أكثر من محاضرة. وحتى بعد اندلاع الحروب المركبة طرح الأستاذ روجيه ادة مشروعاً حول حياد لبنان القانوني والعسكري حسب النموذج النمساوي (كانون الثاني 1983). والّف الدكتور نبيل خليفة ابحاثاً متعددة حول الحياد.
في المرحلة الراهنة تواجه الدولة اللبنانية ازمة مركبة (اقتصادية نقدية، اجتماعية وسياسية). فبموازاة انهيار قيمة العملة الوطنية، والغلاء الجنوني للأسعار، والاستيلاء غير القانون للمصارف على أموال المودعين، والعدد الخطير للنازحين السوريين (فوق المليوني مهجّر)، واستشراء مظاهر الفساد، واستمرار حزب الله في تحركه الإقليمي عسكرياً في اطار مخططات ايران في المنطقة، وفي ظل تصاعد المخططات الإسرائيلية لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية وطموحاتها لتغيير الحدود البرية مع لبنان – رغم وجود ترسيم للحدود منذ كانون الأول 1949 – وسعيها للاستيلاء على جزء من ثروة لبنان الغازية والنفطية التي ذكر تقرير أميركي انها لا تقل عن 150 مليار دولار.
في ظل كل هذه الصورة القاتمة تحاول البطريركية المارونية ان تطرح مبدأ العودة الى أسس الميثاق الوطني اللبناني سبيلاً للخلاص من المخططات الظلامية التي تصاغ في كواليس السياسات الإقليمية والدولية للشعب والدولة اللبنانية. من الواضح ان الهدف المركزي لبكركي هو الحفاظ على سيادة الدولة اللبنانية ومصلحة كل أبناء الشعب اللبناني. البطريرك بشارة الراعي طرح فكرة الحياد كاحدى صيغ الخلاص من الكارثة القادمة على شعبنا، يفترض بالآخرين ان يعودوا الى المنطلقات والمبادئ الأساسية للدولة اللبنانية ولا يستمرا فيالق ملحقة بمخططات هذه الدولة او تلك. ولينطلق الحوار ويكون الهدف والمحور سيادة واستقلال الدولة اللبنانية والحفاظ على حقوق الانسان في هذه الدولة. ان استعمال سياسة الامر الواقع وفرض الرأي بقوة العنف والاتهامات بالعمالة لكل من لا ينصاع لرأي حاملي السلاح، كل ذلك يفاقم الازمة ولا يوصل الى حل مستدام.
وفي كل حال آن لنا – في الذكرى المئوية الأولى لاعلان دولة لبنان الكبير – ان نأخذ العبر من تجاربنا المتكررة وان نتيقن ان جوهر المهمات العائدة للدولة قانوناً هي حصرية حمل السلاح ووحدة السلطة، وان السيادة والاستقلال، كلها قيم كبرى يجب ان يلتف حولها كل اللبنانيين للخلاص من الكارثة التي تلوح في الأفق اذا استمرينا في تعطيل الوحدة الوطنية.
د. عصام خليفة الأمين العام للحركة الثقافية – انطلياس