أبانا الذي في السماء، مارون
الكمال الذي يبغيه الراهب هو الكمال الإلهي- الإنساني البالغ أقصى حدوده، وأسمى درجاته، وأشمل مداه بعيش المسيح، وعلى صورة الأطهار الذين سبقوه :مار أنطونيوس ومار اغناطيوس الشهيد ومار باخوميوس ومار يعقوب النصيبيني ومار ابون، خصص حياته مارون.
من هو مارون؟.
لم يكن مارون السرياني القورشي من قادة المغازي، ولا من مكتسحي الدول، ولا من مؤسسي الممالك، ولم يحدث في محيطه أثرا مادياً صاخبا، لكنه لم ينج من التفاف الناس حوله بفضل ذاك الشعاع الروحاني الذي يميز به الرب مختاريه، بل كان راهبا بسيطا عمد إلى تبشير الوثنيين بالمسيح، وتنويرهم، وإهداءهم، قبل أن ينقطع إلى الحياة النسكية شهيدا حيا، متجردا، حاملا الصليب وراء الرب في فقره ومأكله ومشربه ونوره سهره، يعيش في العراء، متدثرا بجلد ماعز اتقاءا للبرد والثلج. يقول عنه القديس يوحنا فم الذهب بطريرك انطاكية لدى زيارته له سنة ٣٩٨ في جبل نابو، أو جبل سمعان الواقع بين انطاكية وقورش وحلب، حيث كان هناك هيكلا وثنيا على إسم إله اشوري يدعى نبو أو نابو، كان يعبده الأهالي الوثنيين، فكرس مارون هذا الجبل لله وأقام عليه كنيسة، واعتصم به، محولا الأهالي في تلك الأرجاء إلى المسيحية، وكان القديس يوحنا فم الذهب بعد أن نفته السلطات إلى مدينة كوكوزا من بلاد أرمينيا قد كتب عدة رسائل سنتي ٤٠٤ و٤٠٥ إلى مارون، يطلب منه الشفاعة والصلاة له، ويستشيره بعدة مواضيع كنسية، وكان قد كتب عن مارون التالي: “هذا الراهب الناسك لاهوتي كبير لا يشبه باقي رجال الدين الذين عرفتهم خلال حياتي، إنه مارون الإلهي”. من ناحيته استفاض بطريرك قورش توادوريطس في كتابه “التاريخ الرهباني” في الفصل السادس عشر، الذي كتبه سنة ٤٤٠ م، شارحا عن هذا الناسك الحكيم العجيب الذي كان يشفي الأجساد من أمراضها، والنفوس من عاهاتها، ويعلم الناس الاراميين السريان التقوى والرجاء، قاصدا لهم في قراهم، يشاركهم حياتهم، ليكرزهم بحكمة الله وعظمته ومحبته لهم، وتبشيرهم دون كلل وتعب بالحياة الأبدية وبيسوع المسيح الحي إبن الله.
ولد مارون في قورش حوالي العام ٣٢٥ م، وتوفي العام ٤١٠ م، بعد أن كان قد استقر في كفرنابد أخذا بتوسيع البشارة حتى زوال الوثنية المتبقية في ذلك المعقل الجبلي، فاعتنق كل الأهالي الدين المسيحي الذي انتشر كالنار وامتد إلى المدن والقرى المجاورة، فهدم الناس الهياكل الوثنية وبنوا بحجارتها الكنائس. لقد طبع مارون تلاميذه وتلميذاته بطابع التمسك البطولي بالإيمان وبالمثل المسيحية إلى درجة الاستشهاد، ليكونوا منارات ومثال للآخرين، وذلك قبل غيابه. وفي سنة ٤١٠ م، وعلى أثر مرض لم يمهله إلا القليل من الوقت، انتقل مارون إلى الأخدار السماوية. وعند وفاته تنازع المؤمنون في المحيط، كل منهم يريد دفنه في قريته، لكن سكان بلدة براد الكبيرة أتوا جماعات غفيرة واخذوا الجثمان وبنوا له كنيسة في بلدتهم، وهذه الكنيسة تحوي على معبد خاص لإيواء جسد القديس في ناووس صخري مازال إلى اليوم في انقاص الكنيسة في براد شمال غرب حلب.
مات القديس مارون بالجسد، فاكمل تلاميذه ما بدأه يجولون أينما كان في جوار انطاكية وحلب وحماه وحمص وقورش ولبنان، يحملون صليب البشارة والشهادة والرجاء، يجاهدون لإضرام نار الإيمان في النفوس، وجذب الناس إلى حضيرة المسيح، متابعين على درب ملهمهم مارون، ومن هؤلاء التلاميذ والتلميذات، ومن أشهرهم: إبراهيم رسول لبنان، وسمعان، وحوشب، وبارادات، وطاليلاس، ويعقوب القورشي، ومارانا، وكيرا، ودومينيا، وليمناوس، ويوحنا، وموسى، وانطوكيوس، وانطونيوس القورشي، وغيرهم العشرات.
وفي سنة ٤٥٢، أي بعد انعقاد المجمع المسكوني الرابع في خلقدونية بالقرب من القسطنطينية، لتحديد طبيعتي المسيح الآلهية والبشرية في اللاهوت والناسوت، انشطرت الكنيسة إلى قسمين : لا خلقدونيين وخلدونيين. تقديرا لغيرتهم، وصلابة عقيدتهم في أتباع الخط الخلقدوني، بنى الملك البيزنطي مرقيانوس، ديرا على إسم شفيع أتباع مارون، هذا الدير الذي أصبح نقطة انطلاق الكنيسة المارونية عبر التاريخ. وكان دير مار مارون الأساسي يقع في منطقة سوريا الثانية في أبرشية أفاميا على الجبل المشرف على العاصي وبلدة كفرطاب قرب معرة النعمان. ومن هذا الدير باشر رهبان “بيت مارون” رسالتهم الخالدة…..
بقلم جو حتي