عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
أحد شفاء الأبرص
بكركي – ٢٦ شباط ٢٠٢٣
“إذا شئت، فأنت قادرٌ أن تطهّرني” (مر 1: 40)
إنّ يسوع المسيح، لكي يشفي الجنس البشريّ من برص الخطيئة، تعاطف معه، فصار إنسانًا وحمل خطيئة الإنسان برحمته، من
دون أن يرتكب خطيئة شخصيّة واحدة، ودفع ثمن خطايا جميع الناس، وافتداهم بتقديم ذاته على الصليب، متروكًا من الجميع.
فتجلّى في التاريخ أنّه “سرّ التقوى العظيم” (ا تيم 3: 16) المنتصر على خطيئة الإنسان التي هي “سرّ الإثم”، فيدمّرها، ويندرج في ديناميّة التاريخ ليطهّره من برصه، وينفذ إلى أعماق الإثم الخفيّة ليبعث في نفوسنا حركة ارتداد ويوجّهها إلى المصالحة مع الله والذات والناس.
إنّه فادي الإنسان الذي تتجلّى فيه رحمة الله. وهو طبيب الأجساد والأرواح، يواصل الشفاء بواسطة الكنيسة وخدمة الكهنة، بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار. الفداء عمليّة تحرير بامتياز للانسان، وبواسطته للتاريخ البشريّ وللشعوب من عبوديّاتهم، فينعكس مجد الله في العالم (مذكّرة مجمع عقيدة الإيمان: الحريّة المسيحيّة والتحرّر، 3 و 33).
– لا يقتصر البرص على المرض الجلديّ، بل يتعدّاه إلى المستوى الروحيّ بالخطيئة، وإلى كلّ من المستوى الآجتماعيّ والخلقيّ والسياسي.
أ) فاجتماعيًّا، ثمة أناس عديدون منبوذون كالأبرص ومهمّشون في قلب عائلاتهم، بين الزوجين وبين الأولاد ووالديهم. وهناك منبوذون ومهمّشون في حيّهم وبلدتهم ومجتمعهم، فلا احترام لهم، ولا دور في الحياة العامّة لأسباب عائليّة أو سياسيّة. وهناك فقراء ومرضى ومعاقون ومسنّون متروكون ومهملون.
ب) وخلقيًّا، البرص الخلقيّ يطال كرامة الشخص البشريّ بعاداته وأفعاله المنحرفة، وبتحجّر ضميره وقلبه، بالسرقة، والرشوة، والغشّ في التجارة، ورفع الأسعار بغية جني الأرباح، واستلاب أموال الدولة بشتّى الطرق، والتزوير في تأدية الضرائب والسندات والبيانات الماليّة. (تألّق الحقيقة، 100).
ج) وسياسيًّا، نشهد برصًا يشوّه كرامة السلطة السياسيّة، فتنحرف عن مبرّر وجودها، أي خدمة الخير العامّ الذي يؤدّي إلى خير كلّ إنسان وكلّ الانسان. هذا البرص يتآكل روح المسؤوليّة والضمير، ويصل بالمواطنين إلى أوخم النتائج: إلى العوز الاقتصاديّ والبؤس الاجتماعيّ، وإلى امتهان كرامتهم وقهرهم بحرمانهم حقوقهم.
– إنّ البرص السياسيّ عندنا في لبنان يصبح أكثر فأكثر خطرًا على الهويّة اللبنانيّة والكيان، والسبب الأساسيّ هو ضرب رأس الدولة برفض المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهوريّة ضنًّا بالمصالح الفرديّة والفئويّة، وحفاظًا على مشاريع تورّط لبنان وانتخاب رئيسه أكثر فأكثر في اللعبة الإقليميّةِ والدولية. فلا يأتي الرئيس الجديد تعبيرًا عن إرادةِ الشعب اللبناني، إنما تعبيرًا عن مشاريعَ متناثرةٍ في الشرقِ الأوسط الذي لا يَعرف أحدٌ حقيقتَها وأين ستستقِرّ رغم جميع المفاوضاتِ بشأنه منذ ثلاثين سنة. هذا هو الخطر الكبير على مصير الأمّةِ اللبنانيّة ودولةِ لبنان. ونأمل أن تُثمُرَ المفاوضاتُ الجاريةُ في هذه الأثناء بين أصدقاءِ لبنان عن حلٍّ يأخذُ مصلحةَ لبنان بشكلٍّ مستقلٍ عن تسوياتِ الشرق الأوسط.
ونتساءل في الوقت عينه: لماذا يسعى الأطرافُ اللبنانيّون إلى آليّات غيرِ دستوريّةٍ وغيرِ لبنانيّةٍ طالما لدينا آليةٌ دستوريّةٌ تُغنينا عن أبحاثٍ لا طائلَ منها؟ فمهما طالَ زمنُ الشغورِ الرئاسي ــــ شهورًا أو سنواتٍ ــــ لا بد من أن تجري العمليّةِ الانتخابيّةِ لرئاسةِ الجُمهوريّة من خلال آليّةِ الاقتراع في المجلس النيابي. فلماذا الانتظار؟
– المشكلةُ هي أنَّ كلَّ فريقٍ يَرفض أيَّ تنازلٍ لتسهيلِ انتخابِ الرئيس لأنه يَظنُّ نفسَه هو الذي سينتصرُ من خلال “خارج الدستور” والمؤتمرات. وحين يَظنُّ الجميعُ أنَّ كلَّهم منتصرون يَعني أنَّ كلَّهم مهزومون، والخاسرُ هو لبنان وشعبه. هناك انتصاراتُ وهميّةٌ لها طعمُ الهزائمِ أكثر من الهزائم الفعليّةِ. إذا استمر هذا المنطقِ، الخالي من روحِ المسؤوليّةِ ومن صوتِ الضميرِ ومن نداءِ الواجبِ الوطنيِّ، نخشى أن تطولَ مدّةُ الشغورِ الرئاسي كما تُشير غالِبيّةُ المعطيات. إنّ المجتمعاتِ الدوليّةِ تعجب من الوضعِ اللبناني. فهي ترى شعبًا قويًّا مثقّفًا قد وَضعَ أوَّل نظامٍ ديمقراطي منذ مئة سنة، وانتخب أوّلَ رئيسٍ للجُمهوريّةِ في الشرق، ويعيدُ اليومَ بناءَ ذاته من دونِ دولة. إنّ الجماعة السياسيّةَ ليست لهذا الشعبِ الحيِّ ولهذا النظامِ الديمقراطيِّ، بل إنّ هذين الشعب والنظام ليسا لهذه الجماعة.
– ووجه آخر من البرص السياسيّ بادٍ في طريقة معالجة موضوعي المصارف والمودِعين في ظلِّ الصراعات الشخصيِّة والسياسيّة التي تنذر بنتائجَ عكسيّةٍ تُطيحُ بالأخضرِ واليابسِ في نظامِ المصارف وتَقضي على سُمعةِ لبنان النقديّةِ الخارجيّة، فيصبح لبنان دولةً خارجَ النظامِ الماليِّ العالمي، وحينها لا فائدةَ من أيِّ علاج. فالشعوبيّةُ والحِقدُ أخطرُ سلاحين في وضعِنا الماليِّ الحالي. لذلك نُحذِّرُ مِن المسِ من جهةٍ بأموالِ الشعب، ومن جهة أخرى بالنظامِ المصرفي اللبناني، لاسيّما مصرفِ لبنان المركزيّ الذي هو الرابط بين لبنان والنظام المالي الدوليّ إنَّ موضوعًا بهذه الأهميّةِ لا يُعالج بمثلِ هذه الظروف حيث لا يُعرفُ الخيطُ القضائيُّ من الخيطِ السياسيِّ ومن الخيطِّ الشخصي..
– والبرص الإجتماعيّ بادٍ كذلك في الأزمة الاجتماعية والمعيشية والطبيّة، إنَّ غالِبيّةَ الموادّ التي يُدّعى أنها مفقودة ويُعمَلُ على استيرادها، موجودة في لبنان وقيدَ الحجز لدى العديد من المستوردين ولا يوزعوها على الأسواق إلا مع رفعِ الدعم عنها وارتفاعِ سعر الدولار. لذلك ننتظر تحرّكًا سريعًا من أجهزة الدولة لأن هناك أناسًا يموتون – بكل معنى الكلمة- بسبب حجب هذه الموادّ عنهم، وبخاصةٍ المواد الطبيّة. فهل الضميرُ مفقودٌ لدى جميعِ المعنيّين بكلِّ قطاعاتِ الحياة في لبنان؟
– كم نحن والجميع بحاجة لإدراك البرص الذّي يصيبنا، ونذهب يإيمان ذاك الأبرص إلى يسوع، ونقول له بتواضع: “إن شئت، فأنت قادرٌ أن تطهّرني” (مر 1: 40). لله كلّ مجد وشكر وتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.