رئيسٌ بعِدّةِ رؤساء ولِعِدّةِ جُمهوريّات
هناك شِبهُ استحالةٍ لانتخابِ رئيسٍ لجُمهوريّةٍ لم تَعدْ موجودةً، فلا جُمهوريّةَ من دونِ سيادةٍ مهما كان النظامُ والمؤسّسات. ولا سيادةَ في غيابِ سلطةِ الدولةِ على كاملِ أراضيها وعلى حدودِها. وبالتالي يَستحيلُ تطبيقُ الديمقراطيّةِ والحرّياتِ الخاصّةِ والعامّةِ من دونِ سيادةِ الدولةِ على الأفرادِ والجماعات. الباقي اليومَ من الجُمهوريّةِ التي أحْبَبناها: هيكلٌ أثريٌّ يَتردّدُ في حَناياه صدى مجدٍ قديم. لكنَّ الأعمِدةَ الأساسيّةَ لا تزالُ صامدةً لترميمِ الجُمهوريّة حين يحينُ حلُّ القضيّةِ اللبنانيّة.
وهناك شِبهُ استحالةٍ كذلك لانتخابِ رئيسٍ واحدٍ لعدّةِ جمهوريّات. وما الخلافُ المسْتترُ على هُويّةِ الرئيسِ الجديدِ سوى أنَّ كلَّ مكوِّنٍ يُريد رئيسًا لجُمهوريّتِه القائمةِ أو في طورِ التكوينِ، وليس للجُمهوريّةِ اللبنانيّةِ الواحدة. الواقعُ أنّنا نُعطي الانطباعَ أنّنا مختلِفون على الجُمهوريّةِ، فيما نحن مختلِفون على جُمهوريّاتِنا وعلى ما يُمِكنُ أنْ نُحصِّلَه من إرْثِ الجُمهوريّةِ الشرعيّة. العالمُ يَنتقِلُ من شريعةِ الغابِ إلى شرعيّةِ الدولة، أما نحن اللبنانيّين، فنَسيرُ عكسَ السير، إذ نتراجعُ من الدولةِ إلى الغاب من دونِ أيِّ شعورٍ بتأنيبِ ضمير.
هذا تَحوّلٌ منافٍ لطبيعةِ تَطوّرِ الإنسان والمجتمعات. لا يعودُ هذا التراجعُ الحضاريُّ إلى تَقهْقُرٍ لبنانيٍّ داخليٍّ فقط، بل هو عدوى مسارِ دولِ المحيطِ منذ سنواتٍ، حيث تَحوّلت شعوبُها أضاحي جماعيّةً لمستقبلٍ مجهول. وما كانت هذه العَدوى الشرقُ أوسطيّةٌ تَبلُغنا لو لم تُصبح فئاتٌ لبنانيّةٌ جُزءًا لا يَتجزًأ من حروبِ الـمِنطقة ومشاريعها المتضارِبة. ولا بدّ هنا من الإشارةِ إلى أنَّ ردّةَ فعلِ الدولةِ اللبنانيّةِ، بما فيها القوى السياسيّةُ، كانت ضعيفةً ومُتواطِئةً وجبانةً حيالَ تلك الفئاتِ اللبنانيّةِ، لا بل عَمدت الدولةُ على إعطائِها غِطاءً شرعيًّا لأنَّ الطبقةَ السياسيَّةَ منذ بدايةِ التسعينياتِ الماضيةِ انتَمَت إلى المحورِ السوريِّ/الإيرانيِّ ووَضَعت مصلحةَ لبنانَ جانبًا. ولا تزالُ هذه الطبقةُ في صدارةِ الحكمِ والمؤسّساتِ والإدارة حتّى الآن.
وهناك شبهُ استحالةٍ لانتخابِ رئيسٍ على شعبٍ لديه مجموعةُ مشاريعَ يُناقِضُ واحدُها الآخَر. هذه الظاهرةُ المزمنةُ تَجعلُ الإصلاحَ الدستوريَّ مُعقدًا، وتَتعقَّدُ معه الإصلاحاتُ الاقتصاديّةُ والماليّةُ والاجتماعّيةُ والمؤسَّساتيّةُ التي صارت سلاحًا في الصراعِ السياسيّ. ولقد أجْمعَت جميعُ الدولِ الصديقةِ والمؤسّساتُ النَقديّةُ الدُوليّةُ على أنَّ إجراءَ الإصلاحاتِ في لبنان لا يَستدعي وقتًا طويلًا حين يَـتّفقُ السياسيّون على حلٍّ سياسي. وإذا كانت هذه الدولُ والمؤسّساتُ عَجِزت عن إنقاذِ لبنانَ اقتصاديًّا فلأنها أخْفَقت في إيجادِ حلٍ أو تسويةٍ سياسيّةٍ، بما فيها انتخابُ رئيسٍ للجُمهوريّة.
أحدُ الأسبابِ الرئيسيّةِ التي تُعيقُ الحلَّ السياسيَّ في لبنان، هو أَنَّ حزبَ الله يَحرِصُ على انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّةِ يَدينُ بالولاءِ له فيُنفِّذُ من خلالِه التغييراتِ الدستوريّةَ كأمرٍ واقعٍ بانتظارِ أنْ يَتمكّنَ من تغييرِها شرعيًّا في وقتٍ لاحق. ورغمَ جميعِ المحاولاتِ الحواريّةِ التي جَرت خلال السنواتِ الأخيرةِ مع حزبِ الله وإيران، لم نَلمُس استعدادًا لتغييرِ موقفِ هذا الثنائي حيالَ مشروعِه الدينيِّ والعقائديِّ في لبنانَ والمنطقة. من هنا أَنَّ المؤتمراتِ الإقليميّةَ والدُوَليّةَ التي تُعقَدُ مع هذا الفريقِ تحتاجُ منه إلى إعلانِ نيّاتٍ مُسبَقٍ لكي تكونَ لهذه المؤتمراتِ فائدةٌ عمليّة، وهو أمرٌ لم يَحدُث طوالَ أربعةِ عقود. حين تولّى غورباتشوف الحكمَ في الاتّحادِ السوفياتيِّ سنةَ 1990، قَرّر وقفَ تدخّلِ روسيا في دولِ أوروبا الشرقيّةِ التي كانت تدور في محورِ موسكو. ولـمّا تولّى الإمبراطورُ والفيلسوفُ الرومانيُّ مارك أوريل قيادةَ روما بين سنتَي 161 و 180 ب.م. كان يتساءلُ ماذا عليه أن يَفعلَ لتكونَ علاقاتُ روما جيدةً مع محيطِها لأنَها كانت تَتعرّضُ في أيّامِه إلى غزواتٍ مختلِفة؟ فهل تبادرُ إيران يومًا ما إلى التفكيرِ في إعادةِ النظرِ في مشروعِها التوسعيّ؟
وهناك شبهُ استحالةٍ لانتخابِ رئيسِ تحدٍّ أو وفاقيٍّ أو حِياديٍّ أو تَسوويٍّ لأن الاختلافَ لم يَعد على اسمِ الرئيسِ ومواصفاتِه، بل على مواصفات الجمهوريّةِ اللبنانيّةِ وشكلِها وبُنيتِها ودستورِها الجديدِ وانتمائِها الإقليميّ. أقليّةُ القِوى السياسيّةِ تَرغَب في رئيسٍ لهذه الجمهوريّة. أغلبيّةُ المكوّناتِ السياسيّةِ والطائفيّةِ تشتهي رئيسًا لجُمهوريّةٍ أو جُمهوريّاتٍ قيدَ الإنشاءِ في المخيلةِ العقائدية. والأغلبيّةُ أيضًا تَتطلَّعُ إلى رئيسٍ يُرضي الدولَ العربيّةَ والإقليميّةَ والدوليّةَ لا الشعبَ اللبنانيّ. بتعبيرٍ آخَر، تَودُّ القوى السياسيّةُ والطائفيّةُ رئيسًا في مجموعةِ رؤساء، أو رئيسًا واحدًا لمجموعةِ دولٍ متصارعة. هذا هو المستحيل. وإذا كانت تَتملَّكُ كلَّ لبنانيٍّ مجموعةُ ولاءاتٍ تَتوزّعُ على طائفتِه ومذهبِه وإحدى الدولِ الإقليميّة، فإن كلَّ جماعةٍ تعيشُ تاريخًا مختلفًا عن تاريخِ الآخَرين .
إحدى الإشكاليّاتِ البُنيويّةِ في لبنان هي الفوارقُ التاريخيّةُ ــــ زمنيًّا ونوعيًّا ــــ لكلِّ جماعةٍ لبنانيّة. كان يَجدرُ بالدولةِ ــ وهذا دورُها التأسيسيُّ ـــ أن تُوحِّدَ هذه التواريخ لو حَظيَت بولاءِ جميعِ مكوّناتِها. لكنَّ ما شاهَدْناه طَوالَ المئةِ سنةٍ ونيّف هو التالي: عِوضَ أنْ تَدعَ هذه المكوّناتُ الدولةَ تُوحِّدُها وتُوحِّدُ تواريخَها، اسْتَجرَّت هي الدولةَ إلى تواريخِها المتفرِّقةِ، فبَقيت الدولةُ ضعيفةً وظلّت المكوّناتُ منقسِمةً تاريخيًّا، وبالتالي وطنيًّا، على بعضِها البعض. الفوارقُ التاريخيّةُ ليست حِكرًا على لبنان، فقد عَرفَتها المجتمعاتُ الغربيّةُ عمومًا، لكنَّ إرادةَ بناءِ دولٍ قويّةٍ واتّحاداتٍ مُتراصّةٍ كالاتّحاد الأوروبيِّ جَعلتها تنجحُ في الحدِّ من فوارقِها التاريخيّة. إنَّ وظيفةَ الدولةِ هي صَهرُ التناقضاتِ وتحويلُ التاريخِ غيرِ المشترَكِ إلى مستقبلٍ مشترَك. السياسةُ، بهذا المعنى، قادرةٌ على تدجينِ التاريخِ لمصلحةِ وِحدة الشعب.
قد نَنتخبُ عاجِلًا أو آجِلًا رئيسًا للجُمهوريّة وفاقيًّا أو من هذا المحورِ أو ذاك. لكنه سيَصطدِمُ بهذه المعطياتِ البُنيويّةِ التي لا تُرى بالعينِ المجرَّدةِ ولا بالسياسةِ إنما بالتاريخ. من هنا يبقى نجاحُ أيِّ رئيسٍ مرتبطًا بمدى قدرتِه على فهمِ فلسفةِ الوجودِ اللبنانيّ والقضيّةِ اللبنانيّةِ والمسألةِ الشرقيّةِ، ومدى قدرتِه على إقامةِ معادلةِ تَفهُّمٍ وتفاهُمٍ بين السياسةِ والتاريخ.
الوزير السابق سجعان قزي