عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
لا يستطيع أن ينسى متعاطو الشأن السياسيّ أنّهم هم أيضًا مؤتمنون على رسالة خدمة الخير العام، الذي يتوفّر فيه خير الجميع وخير كلِّ مواطن. كيف نوفّق بين هذه الرسالة ونقيضها؟ فالواقع عندنا لا يجهله أحد. وهو أن الأزماتِ المعيشيّةَ المتناميةَ لا تُوفِّرُ عائلةً لبنانيّةً مهما كان وضعُها المالي. وهذا ظاهر للعيان: في أزَماتِ الطحينِ والخبزِ والكهرباءَ والماءِ والموادّ الغذائيّة، وأقساطِ المدارس، والدواءِ ومُستلزماتِ الـمُستشفياتِ وعودةِ وباءِ كورونا، والتخبّطِ في معالجةِ أجورِ موظّفي القطاعِ العامِّ وسطَ استنسابيّةٍ في الزياداتِ تُناقضُ مفهومَ المساواةِ بين المواطنين والموظفين. ويَترافق ذلك مع الالتباساتِ حولَ مفاوضاتِ ترسيمِ الحدودِ البحريّةِ بين لبنان وإسرائيل. وفي هذا المجال، ليس بمقدورِ لبنان أن يَنتظرَ طويلًا ليَستخرجَ الغازَ والنفطَ، فيما تقومُ إسرائيل بذلك. ونتمنّى على الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ، الدولةِ الوسيط، أنْ تَحسِمَ الموضوعَ مع إسرائيل، فلبنان قَدّمَ الحدَّ الأقصى من أجلِ إنجاحِ المفاوضات.
أمام هذا الواقع، يَنتظرُ الشعبُ اللبنانيُّ حلولًا إنقاذيّةً، فتأتيه مشاكلُ تَزيدُ من فَقره. يأملُ أن تَنحَسِرَ عنه الأزَماتُ، فتُطِلُّ كلَّ يومٍ أزمةٌ جديدة. يَترقّبُ أن يَتوجّه إليه المسؤولون ويُخفِّفون من مآسيه، فيَجِدُهم غارقين في صراعاتٍ عبثيّةٍ كأنَّ البلادَ بألفِ خير. إنَّ هذه المشاعرَ والمآسي تُضاعف عدمَ الثقةِ بالجماعةِ السياسيّةِ وتُضعِفُ صِدقيّةَ لبنان في طلب المساعداتِ من الأصدقاء. ومن مظاهرِ فِقدان الثقةِ بالسلطاتِ وبالجماعةِ السياسيّة أنّ الشعبَ في المدّةِ الأخيرة راحَ يتظاهرُ وحيدًا في الشوارعِ والساحاتِ احتجاجًا على الحالةِ المعيشيّةِ المزريةِ التي وصل إليها، فيما المسؤولون في مكان آخر ولا يَهتمّون بصرخِته.
على ضوء المعطيات السياسيّة والنيابيّة والأمنيّة نطالب القوى السياسيّةِ إن تَبتعدَ عن أجواءِ التحدّي التي تُعقّدُ عَلاقاتِ لبنان وتباعدُ بين المكوّناتِ اللبنانيّة، في وقتٍ يجتاز فيه لبنانُ أخطرَ تّحدٍّ وجوديٍّ في تاريخِه الحديث. فالتحدّيات تُعثِّر انتخابَ الرئيسِ الجديد للجمهورية، وهذا أمرٌ نَرفُضه بشِدّةٍ، ونعمل بكلّ ما لنا من علاقات على أن يَتحقّق هذا الانتخاب. ومن موقِعنا المترفِّعِ عن المحاورِ الداخليّةِ والخارجيّة، نَتمنى على الأطراف المختلفةِ إلى التموضُعِ وطنيًّا وخلقِ مناخٍ إيجابيٍّ لتأمين تشكيلِ حكومةٍ وانتخابِ رئيس.
وحين ندعو إلى انتخابِ رئيسٍ لا يُشكّلُ تحديًّا لهذا أو ذاك، نَتطلّع إلى رئيسٍ يَلتزم القضيّةَ اللبنانيّةَ والثوابتَ الوطنيّة وسيادةَ لبنان واستقلالَه، ويُثبّتَ مبدأ الحياد. لا نستطيع أن نُناديَ بحيادِ لبنان ونختارُ رئيسًا منحازًا للمحاورِ وعاجزًا بالتالي عن تطبيق الحياد. والرئيسُ الذي لا يُشكّلُ تحديًّا ليس بالطبعِ رئيسًا لا يمثّلُ أحدًا ولا رئيسًا يَخضعُ لموازين القوى، فيَستقوي على الضعيفِ ويَضعُفُ أمام القوي. لا يُحكَمُ لبنانُ استنادًا إلى موازين القوى، بل استنادًا إلى الدستورِ والقوانين والشراكةِ لكي تَبقى الشرعيّةُ المرجِعيّةَ والملاذ ومصدر القرارات الوطنيّة